يتفق الباحثون في
أعمال مارتن هايدغر على أن هناك كتابين أساسيين يشكلان منظومته الفلسفية ويعبران
عنها وهما: "الكينونة والزمان" و "مدخل إلى الميتافيزيقا".
وإذا كان الأول هو الكتاب التأسيسي بالنسبة لفيلسوف الوجود الألماني، فالثاني هو
الامتداد الطبيعي للكتاب السالف الذكر لأنه يجيب على أهم القضايا التي تصدى لها
هايدغر وهي التي تختصر بالسؤال عن ماهية الوجود.
لكن قبل الدخول
إلى متن النص من المفيد أن نذكر ما يتضمنه كتاب "مدخل إلى الميتافيزيقا"
من موضوعات وأفكار. حيث يضم هذا الكتاب أربعة فصول هي:
- السؤال الأساسي للميتافيزيقا.
- بحث في الجانب
النحوي والإيتيمولوجي لكلمة الوجود.
- سؤال ماهية الوجود
وجوهره.
تحديد الوجود
وتقييده ويتضمن هذا الفصل أربعة مباحث أساسية هي:
- الوجود والصيرورة
- الوجود والظهور
- الوجود والتفكير
- الوجود والواجب.
إن الأهمية
الأساسية للموضوعات المذكورة، أنها تشكل محور النقاش المستدام في الغرب حول نظرية
الوجود عند هايدغر. كذلك يمكن اعتبار نقل النص الى العربية محاولة لإشراك الباحثين
والمفكرين العرب في العالم الإسلامي في مناقشة أفكار هايدغر على صعوبة ترجمتها
بسبب الخصوصية التي تمتاز بها لغة هايدغر الفلسفية.
من هنا فإن
تناولنا لهذا الكتاب من خلال ترجمته إلى العربية يندرج في سياق اهتمامنا بما يقدمه
هايدغر من أعمال غير مسبوقة في ميدان الميتافيزيقا والسؤال عن الوجود. وإذن تعتبر
ترجمة "مدخل إلى الميتافيزيقا"، من الترجمات المميزة التي عمل مترجمها
الدكتور عماد نبيل على معايشة النص وفهمه قبل تقديمه إلى القراء العرب.
إن ما يدعو القارئ
المتخصص إلى هذا الانطباع هو العمل الدؤوب الذي استمر اكثر من عشر سنوات من جانب
المترجم في قراءة نصوص هايدغر باللغة الألمانية. فقد كان هدفه الرئيسي – كما يقول –
البقاء بقدر الإمكان قريبا من روح النص الهايدغري ومضمونه. وكذلك الحرص على اختيار المفردات
والعبارات والمصطلحات العربية التي تؤدي وظيفتها الدقيقة في التعبير عن المصطلح
الألماني. وفي المقابل فقد بذل أقصى جهوده لكي يتجنب المس بخصوصيات اللغة العربية،
بحيث لا يفرض عليها أي تعبير أو مصطلح لا يناسب منطقها. ولهذا السبب قام المترجم
بتقديم المصطلحات في لغتها الأصلية، وسعى إلى ألا تكون ترجمة "مدخل إلى
الميتافيزيقا" مجرد نقل كسول ورتيب للنص الهايدغري كما يقول.
هايدغر ومعنى الميتافيزيقا
قبل أن نصل إلى قراءة النص المترجم عن الألمانية علينا أن نمر بمقدمة طويلة
جدا سطرها المترجم نفسه. وهذه المقدمة هي بمثابة كتاب مستقل تناول فيه أعمال
هايدغر ونظرياته الوجودية وركز بشكل خاص على معنى وماهية الميتافيزيقا.
حملت المقدمة عنوان: "السؤال الأساسي للميتافيزيقا: منسى الوجود –
السؤال المتيّه". في هذا القسم من التقديم المسهب يشرح الكاتب – المترجم غاية
هايدغر من وراء كتابه "مدخل إلى الميتافيزيقا".
ويذكر أن السؤال الأساسي الذي لا مفر منه في فلسفة هايدغر يمكن صياغته على
النحو التالي: لماذا كان هناك وجود الموجودات بدلا من العدم؟
إن الكثير من الناس لم يواجهوا هذا السؤال مطلقا، أو أنهم لم يفكروا في
طرحه على أنفسهم، أي أنهم لم يسعوا إلى إحداثه أو إثارته، أو الشعور بحتميته وعدم
الفرار منه"..
في تعليله لهذا السؤال وأبعاده المعرفية في فلسفة الوجود، يقول هايدغر: إن
أهمية السؤال هذا تعود إلى الأسباب الثلاثة الأساسية اللاحقة:
إن هذا السؤال هو الأول في مكانته الفلسفية بين الأسئلة الأخرى.
ولأنه سؤال عميق جدا يتجاوز بعمقه معظم الأسئلة الفلسفية الأخرى.
إن هذا السؤال أساسي جدا للشروع بعملية التفلسف. وبإيجاز هو السؤال الذي
يحتل قمة الهرم وهو الأكثر عمقا والأكثر أصالة.
لهذه الاعتبارات يبقى سؤال "لماذا كان وجود الموجودات بدلا من
العدم؟" سؤالا غير قابل للمقارنة بالمرة مع أي سؤال آخر. إذ أنه يصطدم بعملية
البحث بمجملها بوساطة طبيعة ونوعية "اللماذا" التي تخصه وحده. ولأول
وهلة فإن سؤال لماذا "اللماذا" يبدو كأنه تكرار عابث وطائش بشكل لا
متناه للصيغة الاستفهامية ذاتها، وكأنه إطالة تفكير فارغة ولا مبررة في الكلمات
نفسها مرة تلو المرة. نعم، هكذا يبدو هذا السؤال، بشكل لا يدع مجالاً للشك يجيب
هايدغر.
يقول الكاتب في مناقشته للجواب المحتمل: "إن هذا السؤال هو بالنسبة
لهايدغر ليس سؤالا عاديا. فهو السؤال الأول من حيث المكانة الفلسفية بين الأسئلة
الأخرى، وذلك على الرغم من أن تلك الأولوية ينبغي ألا تؤخذ بالمعنى الزماني".
عن هذا المضمار يقول هايدغر في "المدخل إلى الميتافيزيقا": إن الناس
عادة ما يطرحون على أنفسهم العديد من الأسئلة ذات المضامين الجيدة في سياق عبورهم
التاريخي عن الزمن. إنهم يحاولون بجدية أن يتفحصوا العديد من الأشياء الجيدة قبل
أن يشرعوا في طرح السؤال اللاحق: "لماذا كان وجود الموجودات بدلا من العدم؟".
مضمون الابتكار الهايدغري
إذا كان مدمل تاريخ الفكر والوجود الإنساني، تبعا لرأي هايدغر، قد تمت
الهيمنة عليه بخاصية فهم الانسان "لسؤال الوجود" فإن ضياع الفكر الحديث
وانحرافه عن مساره الحقيقي يتجذر أصلا في مسألة "نسيان الوجود". وفي
كتاب "مدخل إلى الميتافيزيقا" يقوم هايجغر، بناء على ذلك، بالبحث
والاستقصاء في كل من معنى "الوجود" وتاريخ فهم الإنسان له من أجل أن يصل
إلى تشخيص دقيق لأسباب هذه المشكلة التي تعتبر واحدة من أهم لحظات المنعطفات
الكبرى في تاريخ الفكر الغربي.
فلقد أدرك هايدغر بحدسه المتميّز وبشكل مبكر أن هذا التاريخ بمجمله، قد تم
تدوين وثيقته الفكرية من خلال إبداعات "الفلسفة" و" الشعر".
وعلاوة على كل ذلك، في بواطن وأسرار اللغة التي تقف وراء صناعة مجمل تاريخ الإبداع
الإنساني في هذين المجالين، ويقول هايدغر بهذا الصدد: "إن" الكلمات
واللغة ليست أغطية وأغلفة لهؤلاء الذين يكتبون ويتكلمون، بل من خلال وسطها
وسياقها، تنبثق وتأتي الأشياء أولا إلى "الوجود". ويضيف في موضع آخر من
هذا الكتاب إن العلاقة المتهافتة والمشوهة مع "الوجود" تمثل السبب
الحقيقي والمباشر الذي يكمن وراء سوء العلاقة العام الذي يربطنا الآن مع اللغة. وهذا
يوضح لنا بجلاء لماذا تحتل موضوعة مثل موضوعة أصل الكلمات وتقلباتها مساحة واسعة
من هذا الكتاب. كما أنها، علاوة على ذلك، تشكل جزءا كبيرا من أسلوب الكتابة الفريد
والمميز عند هايدغر وصعوبة ترجمته إلى اللغات الأخرى، ومنها اللغة العربية.
مفهوم الوجود
إن الموضوع الرئيسي لهذا الكتاب – حسب مقدمة المترجم – هو، مفهوم الوجود Sein وعلاقته مع كل من الموجودات والوجود هناك-في-العالم Dasein على وجه الخصوص. والكلمة العربية " الوجود" تبدو مساويا
أو مرادفا مرضيا لكلمة Sein في هذا النص. ذلك لأن الكلمة الألمانية هي صيغة
مصدر، بينما كلمة "الوجود" في العربية هي إسم، وهذا من شأنه بالطبع أن
يخلق الكثير من التعقيدات والمشكلات في ما يتعلق بالتحليل الهايدغري النحوي
والإيتيمولوجي. أما في ما يتعلق بكلمة Seined، فإنها بلا شك صياغة فلسفية هايدغرية صرفة تكاد تكون غريبة تماما
عن لغة الحياة الألمانية اليومية وأي لغة أخرى. وبخصوص وجهة النظر المتعلقة في
الأسلوب والمعنى الذي يروم هايدغر طرحه في هذا الكتاب، فإنه يبدو أن من المهم
ترجمة كلمة Seined إلى كلمة "طوال" أو " في كل
مكان" في اللغة العربية.
أما بخصوص كلمة Dasein فإنها
تثير إشكالية من نوع خاص. ففي اللغة الألمانية اليومية الدارجة تعني تلك الكلمة
"الوجود"، لكن هايدغر يقسم تلك الكلمة إلى مقطعين: المقطع الأول Da وتعني هناك، والمقطع
الثاني Sein وتعني الوجود، ثم بعد
ذلك يعرف المقطعين كلمة واحدة وهي "الوجود-هناك". وقد ترجمها عماد نبيل
في هذا الكتاب بـ " الوجود-هناك-في-العالم".
ولابد من القول إن معظم ترجمات هايدغر للكثير من النصوص الإغريقية الفلسفية
إلى اللغة الألمانية التي ترد في كتاب "مدخل إلى الميتافيزيقا" هي في
الواقع تختلف بشكل جذري عن ترجمات اللغات الأخرى للنصوص ذاتها. إن ما يميز ترجمة
هايدغر لتلك النصوص أنها تقوم في الأساس على التحقق والاستقصاء الدقيق في أسس
الكلمات والمصطلحات والعبارات الإغريقية، وفي المساحة الواسعة لإيحاءاتها
ودلالاتها. ولكن، وبما أن تأويلات هايدغر للكلمات والأفكار الإغريقية تحتلف تماما
عن التأويلات التقليدية المتداولة، فإنه يصبح من الطبيعي أن تختلف ترجماته عن
الترجمات التقليدية. بيد أن ما عمل عليه المترجم هنا ليس نقل النصوص الأصلية
الإغريقية وترجمتها بل نقل ترجمات هايدغر الألمانية لهذه النصوص.
ربما يكون وجه الأهمية في هذا الكتاب ليس فقط ترجمته من اللغة الأصلية، أي اللغة
الألمانية وهي لغة هايدغر، بل أيضا في المقدمة الغنية للمترجم، التي تغوص إلى
أعماق النص لتقدمه للقارئ العربي من دون إبهام وغموض.
المصدر: الاستغراب، العدد الخامس، خريف 2016.
لتحميل الكتاب: مدخل إلى الميتافيزيقا لـ مارتن هايدغر
معلومات عن الكتاب:
الأسم : مدخل الي الميتافيزيقيا
المؤلف : مارتن هايدغر
المترجم : عماد نبيل
دار النشر : دار الفارابي
الطبعة : الاولى
سنة الطبع : 2015
عدد الصفحات : 527 صفحة
الحجم : 10 ميجا بايت