وهم الإله - ريتشارد داوكنز




كان اول لقاء لي بالعالم ريتشارد دوكنز من خلال كتابه "الجين الأناني" عندما عثرت على نسخة فرنسية ملقاة بين كومة روايات ومجلات تباع بخمسة دراهم للكتاب، وقد استمتعت به كما استفدت الشيء الكثير من الكتاب وتعرفت على داوكنز العالم الذي يقدم البيولوجيا التطورية بأسلوب واضح ومسلٍ، لكن متعتي كانت أقل مع "وهم الاله" حيث أن داوكينز الفيلسوف لم يكن ببراعة ولا دقة داوكنز العالم، تعرفت من خلاله على دوكنز الملحد الأصولي الذي ينتقد الدين انتقادا لاذعا، كيفما كان هذا الدين فالدين هو "أصل كل الشرور" كما عنون أحد برامجه التلفزية. الملحد الذي يؤلف كتابا من 400 صفحة ليعلن نهاية الإله، معلنا بنبرة تفاؤل " إذا كان فعل هذا الكتاب كما أتصوره أنا، فإن القارئ المتدين الذي يفتحه سينهيه وقد أصبح ملحدًا"، ومن لم ينهي الكتاب ملحدا فلابد أنه واحد من أصحاب الإيمان الراسخ الذين يمتلكون مناعة هائلة ضد الحجج والنقاش العقلاني كما يضيف. وهذا ما يعبر عن اقتناع دوغمائي تام بصواب الموقف الإلحادي مما يضع داوكنز في خانة واحدة مع الأصولية الدينية التي ترفض الاعتراض على أفكارها وتبخس من كل نقد أو فحص، وذلك ليس غريبا على عالم يرى أن العلوم الطبيعية، البيولوجيا التطورية بشكل خاص، طريق سريع نحو الإلحاد. 


وهمم الإله - ريتشارد دوكنز


في الفصل الأول يناقش إله أينشتاين والجدالات التي أثيرت حوله معبرا عن احترامه لموقف اينشتاين وكل العلماء الذين يعبرون عن اندهاشهم أمام عظمة الكون ودقته، والذي لا يعدو عن كونه مجرد أسلوب في التعبير عن قوانين الطبيعة وروعة هذه الأخيرة، كما أوضح أن الإله موضوع النقد هنا ليس إله أينشتاين ولا أي فكرة عن الاله تقع في هذا الإطار وإن كان يفشل في إدراك البعد اللاهوتي في تصور اينشتاين والذي يندرج  تحت ما يمكن تسميته بوحدة الوجود، ثم يتناول في الجزء الثاني من الفصل والذي عنونه بـ "احترام غير مستحق" موضوع الاحترام المبالغ فيه للدين والذي يحُول دون حرية الفكر والتعبير مقدمًا الكثير من الأمثلة عن ردود فعل المتدينين، قائلا أنه "لن يعطي اعتبارات للدين لا يعطيها لأي موضوع آخر، وأنه لن يعامله بطريقة مختلفة عن معاملته لأي شيء آخر" ، ولهذا فهو يسمح لنفسه بنعت الإله الإبراهيمي بالأحمق، الدموي ...



في الفصل الثاني المعنون ب"فرضية الاله" يخبرنا أنه سينتقد كل "قدرة متوحدة خارقة تعمدت خلق الكون وكل شيء فيه بما فيه نحن" بعد أن قال "لن أهاجم أي من الصفات المحددة ليهوه أو المسيح أو الله أو أي إله آخر مثل زيوس أو بعل أو أودن"، لكنه لا ينفك يقدم انتقادات لهذا الدين أو ذاك متحدثا عن المسيحية ، اليهودية أو عن الإسلام... في هذا يناقش أيضا موقفه من اللاأدرية (وهي ذلك الموقف الوسط بين الإيمان والالحاد الذي يرى أن وجود الاله من عدمه أمر غير قابل للحسم نظرا لعدم توفر ما يكفي من الأدلة) حيث يرى أن هذا الموقف غير سليم لأن وجود الاله من عدمه "سؤال علمي بحث، ويوما ما سنعرف الإجابة".. وأعتقد أن هذه الجملة ستكون صدمة بالنسبة للقارئ، كيف لعالم يلم جيدا بماهية البحث العلمي ويعرف ما هو المنهج العلمي أن يكتب مثل هذا الكلام، وكيف استطاع تخصيص صفحات للحديث عن "تجربة الدعاء الكبرى"، لابد أن شخصية الداعية الملحد قد طغت على شخصية العالم. العلم والدين ينظران للعالم بطريقتين مختلفتين والعلم لا يمكن أن يحدثنا يومًا عن الاله ببساطة لأن الاله لا يمكن صياغته في معادلات رياضية بحتة أو فزيائية رصينة الله ليس فرضية علمية، العلم لا يرى الله ولا يعرفه ولا يعرف كيف يقوم برصده ! العلم يتعامل مع الكون وما فيه فكيف يتعامل مع ما وراء الكون !

يقترح دوكنز "أن وجود الإله هو فرضية علمية كغيرها" وأنه موضوع خلافي لابد أنه سيحسم تماما كما هو الحال في الخلافات حول أسباب انقراض الأحياء نهاية العصر البرمي والطباشيري" وذلك لأنه لا يعترف بفصل الأختصاصات !

ومع أنه يحدثنا في الفصل السابق عن الفرضية العلمية، ينتقل في الفصل الثالث إلى مناقشة ادلة وجود الله الفلسفية التي لا يمكن الحسم فيها من الناحية التجريبية ببساطة، ومن بينها تلك التي قدمها توما الأكويني وأنسلم والتي أساء فهمها بناء على الاسم الذي تحمله "حجج تدل على وجود الله" وفي الحقيقة فهي حجج تعبر عن التوجه الداخلي للإيمان بوجود إله، حيث أن حجج توما الأكويني هي فرضيات منبثقة من الإيمان، الذي يقول عنه توما إن صداه يتردد مع ما نراه في العالم، فهذه البراهين في نظر توما إذن هي تجلٍ للتماسك الداخلي بالاعتقاد بوجود إله... كما يناقش الأدلة من الكتب المقدسة حيث يتناول حياة المسيح وتاريخية أقواله ومتى كتبت ومن كتبها وهل هي موثوقة ... ثم يتطرق لمسألة الاحتجاج بالعلماء الكبار المتدينين حيث يحاول تبيان أن عدد هؤلاء العلماء في تناقص وأن المؤمنين منهم مؤمنون بإله إينشتاين... ثم ينتقل لمناقشة رهان باسكال...

في الفصل التالي يقدم دوكنز جوابا عن السؤال "لماذا الاحتمال الأكبر هو عدم وجود إله؟"، وهنا يشير إلى اعتباطية إيقاف التراجع اللانهائي للعلل عند علة أولى هي إله ما، كما يحدثنا عن التطور التدريجي والانتخاب الطبيعي وعدم حاجة الأشياء المعقدة إلى صانع وأن الانتخاب الطبيعي كاف لتفسير الظواهر التي تبدو مصممّة من طرف خالق، ويناقش أمثلة لما يقدمه المتدينون كأدلة على التعقيد غير قابل للاختزال (العين كمثال) ، وهنا نتعرف مرة أخرى على دوكنز العالم الذي أجاد في مناقشة مسألة التعقيد في الكائنات الحية مبينا أن هذه الأدلة تندرج في إطار مغالطة الاحتجاج بالجهل، في هذا الفصل أيضا يتناول داوكنز المبدأ الأنتروبي والذي يساء استخدامه من طرف المتدينين كدليل على العناية الالهية والتصميم، كما يناقش قضية نشأة الحياة ولا احتماليتها الكبيرة والتي تصير محتملة جدا مع تعدد الكواكب وما دمنا نطرح هذا السؤال فلابد أن ذلك الاحتمال الضئيــــــــل قد تحقق، ففي النهاية اللاحتمالية لا تعني الاستحالة.



في الفصل التالي يتناول داوكينز موضوع أصل الدين حيث يشير إلى احتمال كون السبب في ظهور الدين هو ما يقدمه من أجوبة حول الوجود الإنساني أو ما يقدمه من عزاء، لكنه يصر على أن هدفه هو بلوغ تفسير دارويني نهائي مقدما بذلك محاولة للتأصيل للدين بناء على البيولوجيا، فالدين بالنسبة له قد يكون مجرد عرض ثانوي لصفة مفيدة أخطأت الهدف، وهذه الصفة هي "ميل الطفل لتصديق ما يقوله الأصل والكبار في السن من أهل العشيرة" كما يرى داوكنز، وتلك الطاعة والثقة العمياء مهمة للبقاء لذلك تم انتقاؤها، نفهم أن الدين هو صفة عرضية لتلك الخاصية التي يتصف بها دماغ الطفل لكنه يقول "ولكن الوجه الآخر للطاعة والثقة هو السذاجة الخانعة، كناتج عرضي لا مناص منه يسبب الضعف تجاه عدوى الفيروسات الفكرية" فهل الصفة العرضية هي الدين أم الضعف تجاه الدين؟ ذلك الدين الذي يعتبره "فيروسًا"، (بل إن دوكنز قد سبق وقدم الله باعتباره فيروسا يهاجم العقل البشري ويلوثه في محاولة لتفسير تشبث الكثيرين بهذا الاعتقاد رغم أنه غير منطقي تماما)، دوكنز يرى أن التدين مرض لذلك تجده يستعمل عبارات مثل "شفيت من المسيحية". ولكن الأهم هو العلم، اين هو العلم من كل هذا؟ أم أن الأمر يتعلق بتخمينات لا غير، يبدو أن هذه المقاربة تفتقر إلى الأدلة التي تتطلبها العلوم الطبيعية والتي يحاول الاعتماد عليها. كما يتناول في هذا الفصل قضايا مثل الأخلاق أو دوافع الالتزام الاخلاقي في غياب إله يراقب تصرفات البشر، وطبعًا يعمل على تفسير الأخلاق من وجهة نظر داروينية... وفي الفصل التالي يواصل مناقشة قضية الالتزام الأخلاقي انطلاقا من نصوص الكتب المقدسة محاولا إثبات أنها ليس جديرة بالاتباع بل إنها ضد الحس الأخلاقي العام في أغلب الأحيان.

في الفصل الثامن يتناول سبب هذا العداء للدين، لماذا محاربة الدين بشكل خاص دون غيره من الخرافات (الأبراج وقراءة الطالع وغيرها..)، ليحدثنا عن رفضه لتقويض العلم من طرف الأصولية الدينية ورفضه للأحكام المطلقة مقدما أمثلة كثيرة على هذه الأحكام: عقوبة القتل التي لا تزال تطبق في بعض البلدان الإسلامية، رفض الاعتراف بحقوق المثليين، وعدم الاعتراف بالحق في الاجهاض (وقد استفاض في مناقشة مشروعية هذا الحق)، ويبدو جليا أنه يحقد بشكل خاص على التطرف الإسلامي. هذا ونجد أنه لا يكتفي بنقد التطرف الديني بل يرفض أيضا ما يسمى بالتدين المعتدل، حيث يبين أنه مجرد أكذوبة فالإسلام الصوفت المعتدل مجرد كذب والحقيقة أن الإسلام دين حرب وليس دين سلام. طبعا هناك الكثير من التعميم والتحيز للفكر الإلحادي في مقاربة دوكنز وإن كنا نعلم أن الدين قد يكون سببا في توليد العنف فهذا لا يدعو للتعميم أو إنكار المذابح والجرائم التي أقيمت باسم الفلسفات المادية والشيوعية منها بشكل خاص، هل اختفاء الدين يعني أمانا وسلاما مطلقا، من البديهي أن الأمر بعيد كل البعد عن التصور التبسيطي الذي يقدمه لنا دوكنز بشكل غير موضوعي بل إنه يقول أن الإلحاد لا يدفع الناس بأي شكل من الأشكال لفعل الشر.

في الفصل التالي يناقش مسألة مهمة جدًا، وهي تدين الأطفال، حيث يرى أنه ليس من الصواب إطلاقا وصم طفل بدين والديه، ليس من حقنا أن نقول الطفل المسلم عادل والطفلة المسيحية كاترين، كما يرى أن تربية الطفل على الإيمان بمعتقد معين هو اعتاء على حقوق هذا الطفل، فلا حق لنا في حشو عقول أطفالنا بمعتقدات غير منطقية وخرافية؟ لكن ما هو المقابل حشو عقولهم بفكر لاديني علموي يقوم على أساس مادي؟ هل نسمح للملحدين بحشو أدمغة أبنائهم بمعتقداتهم؟ دوكنز محق في التعبير عن قلقه حول أساليب تربية الأطفال، ولا نملك إلا أن نشاركه قلقه، لكن الأولى أن يحث على تربية الأطفال على التفكير النقدي وحرية الاختيار، أما أن تطالب الأبوين بعدم التأثير على الأبناء بمعتقداتهم فهذا أمر غير ممكن في نظري وإلا فأي قيم ننقلها لهؤلاء الأطفال؟

في الفصل العاشر والأخير يناقش مسألة العزاء الذي يقدمه الدين وهو موضوع بعيد عن وجود الله باعتبار أن العزاء والراحة النفسية ليسا دليلين على وجود إله.



شخصيا، أعتقد أنه لم يوفق أبدا فيما سعى إليه. الكاتب لم يكن منهجيا ولا عادلا في تناوله للأدلة بل إنه يقدم آراء شخصية بعيدة عما يمكن اعتباره دليلا على عدم وجود إله، طبعا هناك فصول ممتعة في الكتاب لكنه في النهاية ليس سوى حشد لمجموعة من الانتقادات التي سبق ووجهت للأديان ولمفهوم الإله بشكل عام، بعض أن صبغها بشيء من العجرفة والثقة الزائدة في النفس (تلك العجرفة التي جعلت يرفض اعتراف أحد العلماء الكبار بل وتكون ردة فعله أنهم إنما يمارسون نوعًا من التزلف للهيئات العلمية أو التقية وإنهم في الحقيقة لا يقصدون ذلك كما فعل مثلا مع العالم فريمان دايسون حين علق على قوله أن "الشخصان اللذان جسدا الشر في القرن الحالي، هتلر وستالين، إثنان أقرا بإلحادهما" يقول : "أليس ذلك بالضبط ما سيقوله أي عالم ملحد، لو أراد أن يبدو مسيحيا؟" ، فلا يمكن لعالم حقيقي أن يصدق هذا الهراء الديني ! ) والعدوانية تجاه كل ما يتم للدين بصلة، الكتاب هجوم شرس على الدين وأمل في اختفاء هذا الأخير، كما أشرت من خلال الكتاب نتعرف على بعد آخر في شخصية دوكنز، ذلك العالم الفذ الذي اعتبر "واحدا من المفكرين الرياديين الثلاثة في العالم" كما أظهر استطلاع قراء مجلة بروسبكت سنة 2005، نفس المجلة التي عنون ناقدها الأدبي مراجعته للكتاب بـ "دوكنز الدوغمائي" معبرا عن دهشته من هذا الكتاب "غير المبالي والمتعصب وغير المترابط والمليء بالتنا


شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

أترك تعليقا