غاليلي الرشدي !

    

  I.            تقديم: المنهجية والإشكالية:
أخشى، وأنا أختار عنوانا مستفزا لمقالي هذا، أن يُستقبل بشكل سيء من طرف الكثير من مؤرخي الأفكار العلمية والفلسفية. كما أعترف، مع غياب توثيق كاف لموضوع مقالتي، أنني لا أملك إلا أن أتقبل كل مقاربة نقدية قد تفند فرضية المقال الأساسية.

هل من المشروع إذن الحديث عن غاليلي رشدي؟


 غاليلي الرشدي


لا شك أن صفة رشدي قد كانت تنطوي على دلالة قدحية، وذلك منذ القديس توما الأكويني، مرور بإدانة 1277 ، وصولا إلى كانط، بل حتى بعد ذلك (أفكر في إرنست رينان ورشديته). ولكن، فلنترك جانبا التساؤل حول إذا ما كان ابن رشد، فيلسوف قرطبة، نفسه رُشديا، ونحاول التطرق إلى صلب فرضيتي والتي يمكن تقديمها كالتالي:
من المرجح أن غاليلي كان على دراية بعمل ابن رشد، إن لم يكن بشكل مباشر، فسيكون قد تعرف عليه بشكل غير مباشر. وقد رأيت أن أستفيد من نصين كرسهما آلان دو ليبيرا Alain de Libera، المؤرخ المختص في العصور الوسطى، لتقديم "فصل المقال"، في التحقق من فرضيتي. يقول في الأول: " قدم ابن رشد، بين سنتي 1168 و1198، شروحا لأغلب أعمال أرسطو ضمن أشكال أدبية مختلفة (الشروحات الكبرى، الشروحات الوسطى، الشروحات الصغرى)، في حين أن المسيحيين، في تلك الحقبة، بالكاد بدأوا يألفون أعمال أرسطو. بعد ترجمتها إلى اللاتينية في مطلع القرن الثالث عشر، ستسيطر هذه الشروحات، المقولات، النفس والميتافيزيقا، على الجامعات الأوربية حتى نهاية القرن السادس عشر. منذ سنة 1230 إلى 1600، سيكون ابن رشد، بجانب أرسطو، تجسيدا للعقلانية الفلسفية في الغرب المسيحي.  ومن هنا نجاحه الأدبي الرائع الذي نقلته بقوة مطبعة البندقية"[1].

إذا كان عمل ابن رشد مسيطرا خلال كل هذه القرون، أي إلى حدود 1600، وإذا كانت مطبعة البندقية هي التي نقلته، إليس من حقنا، في هذه الحالة، الاحتفاظ بالأطروحة أعلاه؟ ودون إبداء أي استنتاج أواصل قراءتي للنص الثاني: " في المقابل، فقد أنعشت أعمال ابن رشد ، الفيلسوف المسلم، الفكر اليهودي، حيث أنه على عكس قراء ابن رشد اللاتيني المدرسيين، كان لقراء ابن رشد العبري، الذين كانت لغة العلم عندهم هي العربية، اتصال مباشر بمجمل أعماله. وهو ما يفسر المكانة العالية التي حظي بها فصل المقال لدى المفكرين اليهود، في حين أنه لم يحظى بأهمية لدى المفكرين اللاتينيين"[2].

الجملة الأخيرة من النص تفسح مجالا للشك في أساس فرضيتي، دون تفنيدها كليا، فإذا لم يحظى فصل المقال بأهمية كبرى لدى المفكرين اللاتينيين، فهل نستنتج من ذلك أنهم لم يعرفوه قط أم أنهم لم يأخذوه بعين الاعتبار؟ أم أن أعمال الستاجيري قد حجبت قيمته؟ من الواضح أنني لا أستطيع أن أجزم بأي شيء.

بالإضافة لذلك، نجد أن البلد الذي شهد انبثاق عصر النهضة، تلك النهضة التي وضعت الأسس التي هزت نظام العالم القديم، ليس سوى إيطاليا، مسقط رأس غاليلي. وبهذا الصدد يقول الشاب الألماني المختص في الفلسفة العربية، داغ نيكولاوس هاس : " العامل الأساسي هو تلك السلطة الإستثنائية التي حظي بها ابن رشد ككاتب جامعي، حيث كان يُدرس وتُقرأ أعماله في كليات الفنون بجميع أنحاء أوربا وخصوصا بإيطاليا النهضة. لقد أثرت شروحاته على أرسطو تأثيرا كبيرا في تقليد الشرح الإيطالي، خصوصا في جامعَة بادوَا Padua ، أكثر مراكز الدراسات الفلسفية أهمية في أوروبا خلال عصر النهضة (...) لقد توّج تاريخ طبعات ابن رشد في عصر النهضة بطبعة جونتا Giuntaالمذهلة التي صدرت بمجلدات عدة بالبندقية بين سنتي 1550 و 1552، حيث عُرضت جميع أعمال أرسطو مرفقة بالأعمال الكاملة لابن رشد. وقد اشتملت هذه الطبعة أيضا على جل ترجمات ابن رشد التي أنتجت خلال عصر النهضة. خلال فترة طويلة، ومنذ الترجمات الطبية بمونبُلييه وبرشلونة حوالي 1300، بالكاد قدمت ترجمات لنصوص عربية. لكن، حوالي 1480، بدأت موجة جديدة من الترجمات، أغلبها عن اللغة العِبرية. وقد دامت حركة الترجمة هاته سبعين سنة تقريبا، إلى حين وفاة المترجم، غزير الانتاج، جاكوبو مانيطو Jacopo Manito، سنة 1549. وقد كانت النتيجة مذهلة، حيث تمت ترجمة 19 شرحا من شروحات أرسطو خلال الفترة الوسيطية كلها"[3].

النص طويل فعلا، لكن غنى محتواه التاريخي ذو أهمية كبرى في تحديد معالم فرضيتي ونطاقها. من المعلوم أن غاليلي قد درس بجامعة بادو Padoue خلال 18 سنة، من 1592 إلى 1610. ونعلم أيضا أن هذه الجامعة ( النص أعلاه دليل على ذلك) كانت تحتوي ضمن مكتباتها على شروحات ابن رشد على أرسطو، وأن ابن رشد قد حظي بسلطة لا تناقش ضمن الأوساط الجامعية. إذن، أليس هناك مجال للاستنتاج بأن غاليلي قد عرف أعمال ابن رشد؟ ألم تكن لديه، على الأقل، فكرة حول محتواها؟ لا أستطيع أن أنحاز مرة اخرى لصالح هذه الفرضية أو تلك. لذلك سأتبنى مقاربة فرضية-استنباطية  ومُقَارِنَة. سأركز اهتمامي على نصين: "فصل المقال" (1179) لابن رشد، ورسالة موجهة من غاليلي إلى السيدة كرستين اللورينية، دوقة توسكانا الكبيرة (1615). وهكذا سينقسم بحثي إلى مرحلتين، آخذا بعين الاعتبار لحظتين تنطوي عليهما، في رأيي، رسالة غاليلي: اللحظة الأولى حيث يوضح طريقته الخاصة في مقاربة النصوص المقدسة، وهنا سأحاول البحث عن تأثير محتمل لابن رشد، ولحظة ثانية، ليست أقل أهمية، حيث يرتكز على السلطة التي يمثلها القديس أوغسطين ليدعم تصوره، المتمثل في ضرورة وشرعية التفسير.

  II.            الظروف العامة لكل من "المقال" و"الرسالة".

باختصار، يندرج "فصل المقال" لابن رشد في سياق عام، وهو مكانة الفلسفة في المناخ الثقافي للحضارة الإسلامية-العربية. ويجب أن تفهم المكانة هنا بمعناها الفقهي، لأن الأمر يتعلق بفتوى موجهة للجمهور. "ليس للجمهور كله، يقول آلان دو ليبيرا Alain de Libera، بل لجمهور الناس المتعلمين ضمن التقليد الفقهي المالكي، وفي النهاية، لسلطة يدعمها ويحيي إصلاحها الديني-السياسي"[4]. وبالتالي فالمسألة التي يحاول "المقال" الإجابة عنها هي: " الغرض من، هذا القول، أن نفحص على جهة النظر الشرعي، هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع، أم محظور، أم مأمور به، إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب"[5]. يحاول ابن رشد الدفاع عن مشروعية الممارسة الفلسفية، ليس بالانطلاق من أرضية فلسفية كما هو الحال في كتابه تهافت التهافت، بل من أرضية فقهية. هذا الوضع لا يترك مجال للشك في طبيعة الجمهور المخَاطب من طرف "المقال": علماء الفقه الإسلامي المعادين للفلسفة. ولهذا اختار ابن رشد مواجهتهم على أرضهم ليثبت، ليس فقط، مشروعية الفلسفة، بل وجوب التفلسف أيضا. وهكذا يقول ابن رشد: " إذا كان فعل التفلسف ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من حيث دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها، وانه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، وإذا كان الشرع ندب إلى اعتبار الموجودات وحث على ذلك، فمن الواضح أن النشاط الذي يندرج ضمن هذا الإسم 'الفلسفة"، إما واجب شرعا أو مندوب إليه"[6]. ويستنتج طبعا أن التفلسف واجب شرعي حيث أن الشرع نفسه يحث على اعتبار الموجودات باعتماد العقل والتفكير. وكدليل على ما قاله، اضطر ابن رشد بشكل بديع، نظرا لأن النقاش يدور حول مشروعية الفلسفة ويستهدف الفقهاء بشكل خاص، إلى تأويل بعض الآيات القرآنية بحيث توافق أطروحته حول وجوب استعمال العقل والقياس المنطقي الاستدلالي، باختصار وجوب الممارسة الفلسفية.
الحيثيات التاريخية، الاجتماعية، السياسية والعلمية التي تحيط بـ "رسالة" غاليلي تختلف طبعا، ومع ذلك، تظل طبيعة النقاش نفسها على الأقل من حيث الشكل. في الواقع، يكتب فرونسوا روسو، مترجم "الرسالة": "هذه الوثيقة ليست مجرد صدى سجالات، أو نتيجة تغير في المزَاج. فبعيدا عن الظروف الإجتماعية والسياسية لتلك الفترة، نجد أنها تتطرق للمشكل الرئيسي الذي طرحه قدوم العلم الحديث على الفكر الديني. وهنا تكمن قيمتها وأهميتها"[7]. في الحقيقة لقد كان غاليلي مجبرا على مواجهة بعض علماء اللاهوت المعادين للعلم الحديث، ذلك العلم الذي عرف انعطافا حاسما بفضل نظرية مركزية الشمس الكوبرنيكية. وبما أن مجال النقاش تجاوز الإطار المحدود للنقاش الإبستيمولوجي، حيث أدرجت فيه إضافات ذات طبيعة دينية، كان يجب عليه الدفاع عن مشروعية تلك النظرية. وليحقق ذلك اقترح إعادة تأويل النص المقدس على ضوء الاكتشافات الحديثة التي أسهم فيها هو نفسه. لنقرأ إذن ما يقوله غاليلي في بداية الرسالة: " لقد اكتشفت، قبل سنوات، كما لا يخفى على جلالتكم، العديد من الخصائص في السماء، والتي كانت خفية إلى حدود الساعة. لقد أدت هذه الاكتشافات، إما بسبب جدّتها، أو بسبب العديد من النتائج التي تترتب عنها، وهي التي أتت لتعارض مقترحات مقبولة عادة في مدارس الفلاسفة، إلى انتفاض الكثير من هؤلاء الأساتذة ضدي، إلى درجة أن الواحد قد يظن أنني وضعت بيدي هذه الأشياء في السماء لزعزعة الطبيعة والعلوم (...) ونظرا لتشبثهم في نفس الوقت بآرائهم الخاصة لا بالحقيقة، فقد ذهبت بهم الجرأة إلى ادعاء ان هذه الاكتشافات الجديدة غير موجودة، في حين أنهم لو أرادوا التفكير فيها باهتمام لكان لزاما عليهم الخلوص إلى أنها موجودة. وهكذا أخذوا في الرد معتمدين مقاربات مختلفة، كما نشروا كتابات ملآى بخطابات عبثية. وما جعل خطأهم أشنع هو أنهم أدرجوا نصوصا مقدسة ضمن كتاباتهم، وهي نصوص مقتبسة من مقاطع لم يفهموها جيدًا ولا تتلاءم والأسئلة محل النقاش...[8]". إذا كان هؤلاء المعارضون لم يستوعبوا جيدا معاني الكتابات المقدسة التي يستعملونها ضد العلم الحديث، فإن التأويل يصبح ضرورة ملحّة. هكذا سأتعرض لأول لحظة من تحليلي بحيث نرى كيف تناول غاليلي تفسير النصوص المقدسة مع مقارنة منهجيته بتلك المتبعة من طرف ابن رشد.

III.          اللحظة الأولى: ضرورة التأويل بين غاليلي وابن رشد.
يقول غاليلي: " أمام الاتهامات التي يحاولون تلفيقها لي زورا وبهتانا، والتي تشكك في إيماني ومكانتي، ارتأيت أنه من الضروري مواجهة هاته الحجج المقدمة ضدي تحت ذريعة حماس ديني مصطنع وباستدعاء النصوص المقدسة، التي وُضعت في خدمة أحكام غير جادة، بنية توسيع سلطتها، بل وإساءة استخدامها، متجاوزين مقاصدها وتأويلات الآباء، وذلك بإقحامها في استنتاجات طبيعية بحتة وغير ذات صلة بالإيمان، مستبدلين المنطق والاستدلال بمقاطع من الكتابات المقدسة، والتي غالبا ما يمكن تأويلها بطرق مختلفة بعيدًا عن التفسير الحرفي للنص"[9].
المقطع أعلاه يبرز البرنامج الذي ينوي غاليلي اتباعه، ذلك البرنامج الذي يمكن تلخيصه في النقاط الأساسية التالية:
أولا، يتعلق الامر بالنسبة له بمواجهة الحجج المستمدة من النصوص المقدسة التي يستخدمها خصومه لمعارضته، متجاهلين مقاصدها والتفسيرات التي قدمها الآباء المبجلون لنفس هذه النصوص.
ثانيا، يرى غاليلي أن هذه الكتابات التي يفترض أنها تدعم موقف خصومه، تحتمل تفسيرات أخرى مختلفة عن تلك التي قدمت للاعتراض على استدلالات وملاحظات راسخة.
وبالتالي فأول مقاربة سيعتمدها غاليلي هي إبعاد كل ما من شأنه أن يثير الشكوك حول إيمانه. ولهذا يقول: " إنني أبجل كل هذه السلط (سلطة الكتابات المقدسة، علماء الدين والمجالس) وأكن لها احتراما كبيرا، وسأعتبر كل معارضة لها عملا متهوراً، لكن، وفي نفس الوقت، لا أرى أنه من الخطأ أن يتحدث المرء عندما تكون لديه أسباب للاعتقاد بأن البعض يسعون، لمصلحتهم الشخصية، لاستعمالها بمعنى مختلف عن التفسير الذي اعتمدته الكنيسة المقدسة"[10]. إن استراتيجية غاليلي في غاية الوضوح، وهي ترتكز على إشهار نفس الأسلحة في وجه من لا يحاولون زعزعة مكانته ومصداقيته الدينية فقط بل وتحطيم النظرية الكوبرنيكية أيضا. وهكذا، سنشهد منذ هذه اللحظة تحولا في منحى النقاش الذي سيتمحور من الآن فصاعدا حول مكانة التأويل وشرعيته. من أجل ذلك، يبدأ غاليلي بتحديد الإطار الذي سيجرى ضمنه النقاش، وذلك بالبدء بعرض الأطروحة الأساسية التي يدافع عنها معارضوه.

يقول غاليلي: " السبب الذي تتم إثارته لإدانة الرأي القائل بحركية الأرض وثبات الشمس، هو ورود القول بأن الشمس تتحرك وأن الأرض ثابتة في مقاطع كثيرة من الكتابات المقدسة، وبما أن النصوص المقدسة لا يمكن أن تكذب ولا أن تخطئ، تكون النتيجة الحتمية لذلك هي أن قول من يدعي ثبات الشمس بذاتها وأن الأرض تتحرك، قول خاطئ و قابل للإدانة"[11]. " النصوص المقدسة لا يمكن أن تكذب ولا أن تخطئ هذا التأكيد هو طبعا نتيجة منطقية للاقتباس أعلاه حيث يؤكد غاليلي ارتباطه الوثيق بعقائد الديانة المسيحية. ومع ذلك، يكتب غاليلي: "وبهذا الصدد يمكنني القول أنه من التقوى ومن الحكمة دعم القول بأن النصوص المقدسة لا يمكن أن تكذب بمجرد ما نقبض على معناها الحقيقي"[12]. أولا، تجدر الإشارة إلى أن هذا التقييد، بل هذا الشرط، ليس عرضيا، فهنا تنكشف، في اعتقادي، الغاية من كل ما تم عرضه وكل ما سيتم عرضه. فالنصوص المقدسة صحيحة شريطة أن تفسر بشكل جيد. والاستنتاجات الطبيعية تكون صحيحة هي الأخرى ما دامت تقوم على دلائل ومادامت ضرورية. والهدف هو خلق نوع من التطابق بين الحقيقتين، بتعبير آخر، إذا ما وجد تعارض بينهما، فالتأويل يصبح بطبيعة الحال ضرورة، حيث يقول: " لا نستطيع أن ننكر أن هذا المعنى (الذي تحمله النصوص المقدسة) يكون مخفيا في أغلب الأحيان، وأنه يختلف كثيرا عن المعنى الحرفي، هكذا فباقتصارنا بشكل دائم على المعنى الحرفي، فإننا لا نخاطر بجعل النصوص المقدسة تحتوي على تناقضات وأحكام بعيدة عن الحقيقة فحسب، بل على هرطقات وكفريات أيضا..."[13] يجب أن نعتبر كل الصفات الإنسانية المنسوبة لله مجرد هرطقة، بما في ذلك الغضب، الكره والجهل بأحداث مستقبلية ...إلخ. ومع ذلك، يقول غاليلي: " أن هذا النوع من القضايا قد أوحي به من طرف الروح القدس للكُتّاب المبجلين، حتى يتمكنوا من التأقلم مع عامة الناس الجهّل والأميين، ولكن، من أجل الخاصة من الناس المتميزين بعلمهم، فإنه من الضروري على الشروحات المقدمة لهذه النصوص أن تكشف المعنى الصحيح وتفصح عن الأسباب الخاصة التي أدت إلى التعبير عن هذه الحقائق بكلمات كهاته: هذا الأسلوب في النظر شائع بين كافة علماء الدين ما يجعلنا في غنى عن تبريره"[14].

يمكن استخلاص ملاحظتين، على الأقل، من النصين المشار إليهما أعلاه، واللتين تدفعاننا لاستحضار ابن رشد:
1-   غالبا ما يتضمن النص المقدس، حسب غاليلي، مستويين من المعنى: الأول ظاهر والآخر باطن. وهي الأطروحة التي اعتمدها ابن رشد أيضا عندما كتب: " والسبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن هو اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق والسبب في ورود نصوص متعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها. والى هذا المعنى وردت الإشارة بقوله تعالى: " هو الذي أنزل عليك الكتاب، منه آيات محكمات " إلى قوله: " والراسخون في العلم.[15] "
2-   يميز غاليلي بين صنفين من الناس: المعنيون بالمعنى الظاهر، الشعب الجاهل، والمعنيون بالمعنى الباطن، وهم النخبة العَالمة. وهنا يمكن أن نجد، تقريبا، نفس التقسيم لدى ابن رشد، التقسيم الذي يعبر عنه في "فصل المقال" كما يلي: " وذلك أن طباع الناس مُتفاضلة في التصديق: فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق، بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان بالبرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية..."[16]. ومع ذلك نجد أن غاليلي لا يذكر الصنف الثاني، وهو صنف الجدليين، إلا إذا شئنا أن ننظر إلى علماء الدين المعارضين للعلم الحديث باعتبارهم جدليين وهو أمر لا يكاد يكون مقنعًا.
هذا ويجب أن نشير إلى أن ضرورة التأويل ترجع إلى التباس معاني النصوص، والى الفروق الفكرية التي نلحظها بين الناس. لهذا يقول غاليلي: " إذا كانت النصوص المقدسة لم تمتنع عن حجب حقائق أساسية، دون تردد في وصف الرب بصفات تتناقض وجوهره، إلا بهدف التأقلم مع قدرات العامة، فمن يستطيع أن يدعم بشكل جدي أن هذه النصوص قد اختارت أن تتشبث بالمعنى الحرفي للكلمات بينما تتحدث عرضيا عن الأرض، الماء، الشمس أو غيرها من المخلوقات؟ بل كيف استطاعت هذه النصوص، فيما يتعلق بهذه المخلوقات، أن تتناول أسئلة بعيدة كل البعد عن قدرة الشعب على الاستيعاب والتي لا تتصل بشكل مباشر بالشريعة الإلاهية ولا بخلاص الأرواح والذي يمثل الهدف الأول من هذه النصوص المقدسة نفسها[17]". إذا كانت النصوص المقدسة قد تكتمت عن حقائق أساسية ترتبط بالعقيدة الدينية، كيف يمكن لها أن تتصرف بشكل مختلف عندما يتعلق الأمر بأسئلة طبيعية ليست أبسط من هذه الحقائق؟ إن هذه المماثلة التي يقيمها غاليلي بين إلغاز بعض القضايا اللاهوتية والأسئلة المرتبطة بالفلسفة الطبيعية من القوة بحيث أنها تعيد تأكيد ملحاحية ومشروعية التأويل. بل أكثر من ذلك إن الهدف الرئيسي للنصوص المقدسة هو الشريعة والخلاص وليس تعليم "العلوم". إن الطبيعة حسب غاليلي لا تأبه بتاتا باختلاف طباع الناس ولا بقدراتهم الذهنية، ولا تغريها أبدا المناهج التفسيرية. إنها تكتفي باتباع قوانين حتمية محددة سلفا من قبل الخالق. وهذا هو ما يؤكده، إلى حد ما، ابن رشد، فحتى لو اختلفت، حسب رأيه، طرق تلقين حقيقة الوحي باختلاف أصناف الناس المعنيين، سيبقى من المؤكد أن: " مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم الحق والعمل الحق. والعلم الحق هو معرفة الله تبارك وتعالى وسائر الموجودات على ماهي عليه، وبخاصة الشريفة منها، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي. والعمل الحق هو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة، وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء . والمعرفة بهذه الأفعال هي التي تسمى العلم العملي" [18].

بالإضافة لذلك، نستطيع، حسب اعتقادي، أن نستشف لدى كل من غاليلي وابن رشد مبدأ منهجيا أو قاعدة منهجية خاصة بتفسير النصوص المقدسة. في الواقع، يشترط الكاتبان تفسير هذه الأخيرة على ضوء الخلاصات المستمدة من براهين ضرورية. وهذا ما يقرره ابن رشد عندما يقول: "إذا كان الأمر كذلك، وأدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، لا يبقى أمامنا إلا احتمالان إما أن الشرع قد سكت عن ذلك الموجود أو عرف به. فإن كان مما سكت عنه فلا مجال هنا للتعارض، فيكون بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام، فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي. وإن كان مما نطقت به الشريعة فإما أن يكون ظاهر النطق موافقا لما أدى إليه البرهان وإما مخالفا له. فإن كان موافقا، فلا قول هنالك، وإن كان مخالفا، طلب هنالك تأويله"[19]. من جهته، يقول غاليلي: " لكن، إذا ما أدت بنا الاستنتاجات الطبيعية إلى أمور يقينية، يصبح من الواجب علينا اعتماد هذه الاستنتاجات كوسيلة ملائمة تماما لعرض صادق لهذه الكتابات وللبحث عن المعنى الذي تنطوي عليه بالضرورة، مادامت موثوقة دائما وتتوافق مع الحقيقة المثبتة"[20]. يمكن أن نستخلص من هذا المبدأ المنهجي النتائج التالية:

أولا، هذا المبدأ يكشف لدى الكاتبين، سواء بشكل ظاهر أو مضمر، ما أسميه ميلا للتأسيس لاستقلالية الحقول، أو خطا فاصلا بين ما ينتمي للثيولوجيا وما ينتمي للفلسفة الطبيعية، وهذا لأنهما يجعلان معنى النصوص المقدسة تابعا للخلاصات المنبثقة من البراهين. وهذا الميل يتجلى بشكل واضح لدى غاليلي، حيث يقول: " يبدو أنه من غير اللازم، خلال النقاشات المتعلقة بالقضايا الطبيعية، أن نرجع إلى سلطة النصوص المقدسة، بل يجب أولا أن نعتمد على التجربة الحسية وعلى البراهين الضرورية ..."[21]. ثم يضيف: " ينتج عن ذلك أنه لا يجب أن توضع الحوادث الطبيعية والتجارب الحسية المشاهدة، والبراهين الضرورية المستخلصة عنها، موضع شك ولا أن تتم إدانتها باسم النصوص المقدسة، حتى وإن كان المعنى الظاهري لهذه النصوص يخالفها"[22]. وابن رشد لا يقول العكس مادام يؤكد على هذا التوجه المنهجي القائم على قراءة النصوص القرآنية على ضوء ما أثبته العقل، "ونحن نؤكد بشكل قطعي أنه إذا ما وجد تعارض بين ما أدى إليه البرهان وظاهر الشرع فإن ذلك الظاهر يقبل التأويل وفق قواعد التأويل (المنسجمة والاستعمالات المجازية) في اللغة العربية"[23]. إجمالا، حتى وإن لم توجد حقيقتان، الأولى اكتشفت عن طريق العقل والثانية عن طريق الوحي، وإنما حقيقة واحدة معبّر عنها بطريقتين مختلفتين، يجب الاحتفاظ بالنتائج المثبتة عن طريق الاستدلال، مما يمنحها استقلالية ثابتة.

النتيجة الثانية هي أن هذا التوافق الذي اكتشفناه بفضل التأويل يرتبط في الواقع بصدق كل من "الفلسفة الطبيعية" والنصوص المقدسة، وبالتالي عدم إمكان التعارض بينهما. وهذا ما يعبر عنه ابن رشد عندما يقول: "ولما كانت الشريعة حقا، وداعية إلى النظر العقلي المؤدي إلى معرفة الحق، فإننا معشر المسلمين، نعلم يقينًا أن النظر البرهاني لا يؤدي إطلاقا إلى مخالفة ما ورد به الشرع، ذلك أن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له"[24]. ومما يثير الفضول أن غاليلي يستشهد بـبِينيتو بيريريوس Benito Pererius الذي يكرر، تقريبا، ما سبق وقاله ابن رشد. وهكذا نجد أن الفيلسوف الإسباني يقول: " ونحن نتناول عقيدة موسى، يجب أن نتوخى الحذر من تقديم ما من شأنه أن يتعارض مع تجارب واضحة أو مع أدلة فلسفية أو مع غيرها من فروع المعرفة: في النهاية، وبما أن الحق يتوافق دائما مع الحق، فحقائق الرسائل المقدسة لا يمكن أن تتعارض مع الأدلة الصحيحة ولا مع التجارب النابعة من المذاهب الإنسانية"[25]. هل الأمر مجرد صدفة؟ طبعا لا، ودعوني أوضح الأمر. قبل قراءة هذا الاقتباس كنت عازما على إتمام المقال وفق الخطة التي عرضتها في المقدمة، والتي تشتمل، كما لاحظتم، على لحظتين: الأولى والتي عرضتها للتو، والتي تكشف عن نوع من التشابه بين الكاتبين من حيث المقاربة التأويلية للنصوص المقدسة. والثانية حيث كنت أعزم على عرض الطريقة التي اعتمد من خلالها غاليلي على سلطة القديس أوغسطين لدعم أطروحاته. والسبب الكامن وراء ذلك هو أنني كنت أشكك في الأساس الذي تقوم عليه فرضيتي، لذلك عمدت إلى جعل قيمتها نسبية، محاولا البحث عن تأثير ما لدى القديس أوغسطين، تأثير من شأنه أن يلعب دورا حاسما في الاختيار المنهجي، التأويلي، لغاليلي. لكن، أعترف أن ورود اسم الفيلسوف الاسباني بينيتو بيريريوس أجبرني على تأجيل هذه اللحظة الثانية، والتي سأخصص لها مقالا آخر، وهذا لا يعني أنها أقل أهمية طبعا. في الواقع، إن ارتكاز غاليلي على سلطة هذا الفيلسوف والثيولوجي اليسوعي يحمل الكثير من الدلالات. إن العلاقة التي كانت تربط غاليلي بالطائفة اليسوعية تظهر حجم تأثيرهم على تطور أفكاره العلمية، وعلى مساره كواحد من مؤسسي "العلم الحديث" "scientia nova" وقد دافع مؤرخ العلوم وليام إ. والاس عن هذه الأطروحة في مقال طويل خصصه لهذا الموضوع. فنجده يقول: " إن الأمر لا يتعلق بحب غاليلي أو كرهه لليسوعيين، سواء خلال فترات معينة أو خلال حياته كلها... في الواقع، سيكون من العدل القول أن غاليلي قد استفاد من علاقاته باليسوعيين والتي امتدت لأكثر من نصف حياته، وأن نعترف بفضلهم، على الأقل، في جزء من نجاحه كعالم"[26]. ولكن ما يهمني هو التساؤل حول إذا ما كان قد تأثر ببعض أطروحاتهم الميتافيزيقية، الفلسفية واللاهوتية أيضا. صحيح أنه في سياق ثقافي كالذي ساد في العصر الحديث، بل وقبله، لم تكون النقاشات الفلسفية منفصلة عن تلك النقاشات الأخرى ذات الطابع الميتافيزيقي اللاهوتي. حتى أن رسالة غاليلي وحدها تكفي لإثبات ذلك. إذن، لماذا التركيز على اسم بينيتو بيريرا، الذي ورد في رسالته، وليس على أسماء الأفلاطونيين المحدثين كدينيس الأريوباجي (الحكيم) أو القديس أوغسطين؟ نجد الجواب في النص التالي: "... لقد كان لكتابات بيريروس (...) تأثير كبير، لقد كان أيضا طوماويا بشكل أقل من توليتوس، ومدافعا عن عدد من أطروحات ابن رشد، ومن بينها تلك التي رفض فيها الاعتماد على الرياضيات في دراسة الطبيعة"[27]. لقد كان بينيتو بيريرا مدافعا متحمسا عن بعض الأطروحات الرشدية، ولهذا اشتُبِه في كونه رشديا. بالإضافة لذلك يعتبر بينيتو، رفقة توليتوس، واحدًا من أشهر أساتذة "Colegio Romano" و من الأفراد الذين جمعتهم بغاليلي علاقات فكرية أكثر منها شخصية. وكنتيجة لذلك يقول والاس: "إن أول اتصال بين غاليلي واليسوعيين هو الأهم، لأنه يشكل أساس ما سيلي. ظهرت خلال 25 سنة الماضية أدلة مذهلة تربط غاليلي بالأساتذة الياسوعيين Collegio Romano حوالي 1588-1591، وهي الفترة التي بدأت فيها مسيرته كأستاذ بجامعة بيزا Pisa"[28]. إن حضور عالم مختص بالكتاب المقدس كبونيتو بيريرا في مقرر غاليلي لا يمكن، في رأيي، إلا أن يدعم أطروحتي الأساس دون أن يؤكدها بشكل مطلق. ونظرا لنقص توثيق كاف، كما سبق وأشرت، خصوصا فيما يتعلق بالمسار الفكري للفيلسوف الإسباني (أي بيريروس)، سيظل هذا المقال مشروعا غير مكتمل، ولكنني سأعمل على تعميقه بمجرد ما تتوفر لدي العناصر اللازمة لإتمامه.

الأستاذ: كمال الكوطي
ترجمة: امريزيق محمد
المقال الأصلي: 
Galilée l’averroïste





[1] Averroès : Discours décisif, Flammarion, Paris, 1996. Traduction de Marc Geoffroy  introduction d’Alain de Libera. P.9
[2] Ibid. P. 10
[3] James Hankins : Renaissance philosophy, Cambridge University Press, 2007.p. 114-115.
[4] Averroès : Discours décisif, Flammarion, Paris, 1996. Traduction de Marc Geoffroy, introduction d’Alain de Libera. P. 12
[5] Ibid. P. 103
[6] Ibid. P. 104-105
[7] Clavelin Maurice. Lettre à Mme Christine de Lorraine, Grande-Duchesse de Toscane. (Traduction de Fr. Russo).In : Revue d’histoire des sciences et de leurs applications, tome 17, n°4, 1964.pp. 338-368 ; lettre que vous trouverez sur le site :http://www.persee.fr/doc/rhs_0048-7996_1964_num_17_4_2372,
[8]    Ibid. P. 338-339
[9]  Ibid. P. 341
[10] Ibid. P. 342
[11]Ibid. P. 342
[12]  Ibid. P. 342
[13] Ibid. P. 342-343
[14] Ibid. P. 343
[15] Averroès : Discours décisif, Flammarion, Paris, 1996. Traduction de Marc Geoffroy  introduction d’Alain de Libera. PP, 121-122
[16] Ibid. P. 117
[17] Clavelin Maurice. Lettre à Mme Christine de Lorraine, Grande-Duchesse de Toscane. P. 343
[18] Averroès : Discours décisif, PP.149-150
[19] Averroès : Discours décisif. P. 119
[20] Galilée : La Lettre. P. 344
[21] Galilée : La Lettre. P. 343
[22] Galilée : La Lettre. P. 343-344
[23]  Averroès : Discours décisif. P. 121
[24]   Averroès : Discours décisif. P. 119
[25] Galilée : La Lettre. P. 346
[26] Ouvrage collectif : Jesuit science and the republic of letters, Massachusetts Institute of Technology, 2003. p. 99
[27] Ibid. P. 99
[28] Ibid. P. 100

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

أترك تعليقا