الوضع البشري - مفهوم الشخص


مفهوم الشخص
ذ.الزاهيد مصطفى

تقديم خاص لمفهوم الشخص:
غالبا ما يتم الخلط في تناول الشخص بين مفهومين متقاطعين ومتباينين في الآن نفسه: يتعلق الأمر بمفهوم الشخص ومفهوم الشخصية، فإذا كان الحقل الابستمولوجي الذي يؤطر مفهوم الشخصية هو العلوم الإنسانية بمقارباتها المتعددة، الأنثربولوجية، السيكولوجية، والسوسيولوجية، فإن مفهوم الشخص تحديد يحيل على المقاربة الفلسفية وما تتضمنه من أطروحات ومتنوعة.
الوضع البشري - مفهوم الشخص
إن التفكير في مفهوم الشخص، هو في الأصل تفكير في الإنسان، وتحديد في معنى الشرط الإنساني، بما يحمله من مفارقات: المفارقة الأولى، هي أن الشخص كائن إنساني، أي كائن ليس كباقي الكائنات الأخرى. فالشرط الإنساني يعني من جهة أن الشخص لا يمكن أن يتفلت من كونه كائنا حيا، لكنه يحاول باستمرار أن يفرض البعد الآخر لشرطه الإنساني بما هو إنسان لا تحكمه الحاجات فقط، بل الرغبات والأهواء من جهة ثانية. فالشخص إذن تعبير عن كون الإنسان غير مكتف بذاته ولا بتكرارها، لذا فهو غير مطمئن لوجوده، إذ يسعى باستمرار إلى إنكار حيوانيته، بحيث عمل ويعمل جاهدا على تأصيل بعد أخلاقي نابع ومؤدي في الآن نفسه إلى هذه الإرادة العالقة.

المفارقة الثانية، هي أن المقاربة الفلسفية للشخص على اختلاف اطروحاتها، تسعى إلى التأكيد على ضرورة الحذر من اختزال الشخص في الإنسان وما ينتج عن ذلك من إغفال لامتدادات الهوية، والحذر أيضا من اختزاله في الانتماء الثقافي والاجتماعي وما يستتبع ذلك من انغلاق وتمركز حول الذات، بهذا المعنى دأب الفلاسفة على مقاربة الشخص باعتباره قادرا على التفلسف والتأمل والنقد، وخلق مسافة بينه وبين ذاته، وبينه وبين العالم، وبينه وبين عالم الناس، لأنه حامل لوعي تفكيري، لكن الشخص لا يستطيع بتفكيره إدراك كل شيء ولا يستطيع بوعيه التحكم في كل شيء: إنها مفارقة الشخص الناتجة عن اللامفكر في واللاوعي. ها هنا يتجلى الشخص ليس كموضوع، بل كخلق ذاتي وكتجربة معاشة، إنه يتجاوز ما يعرفه عن ذاته، وما يمكن أن نعرفه عنه. إنه خلق مستمر ونفي لما توجد عليه الذات. في كلمة، إنه رهان.
 

مفهوم الشخص/الهوية/الشخصية: من الدلالة المفهومية إلى الإشكالية الفلسفية:
الشخص:
في القاموس المحيط تحيل دلالة الشخص على الظهور والارتفاع ويطلق على كل جسم/إنساني يرى من بعيد. أما في المعجم الفلسفي لصليبا نجد أن الشخص في عرف القدماء هو الفرد، وفي كتاب النجاة لابن سيناء يطلق لفظ الشخص على الصورة الإنسانية والماهية الإنسانية التي يعتبرها طبيعة مشتركة بين جميع اشخاص النوع، والشخص عند المنطقيين هو الماهية المعروضة لتشخصنات وقد غلب إطلاقها بعد ذلك على الإنسان، أي على الموجود الذي يشعر بذاته، ويدرك أفعاله، ويسأل عنها، وهو بهذا المعنى مقابل للشيء العيني الخالي من الفعل والاختيار وقد فرق العلماء بين الشخص الطبيعي والشخص المعنوي:
·       الشخص الطبيعي: هو جسم الإنسان من حيث هو مظهر لذته الواعية، ومن حيث هو تعبير عن هذه الذات.
·      الشخص المعنوي: هو الفرد من حيث اتصافه بصفات تمكنه من المشاركة العقلية والوجدانية في العلاقات الإنسانية، ومن شرط الشخص القدرة على التمييز بين الحق والباطل وبين الخير والشر، وأن يكون قادرا على التقيد بالعوامل التي تجعل فعله معقولا في نظر الناس.

في موسوعة لالاند الفلسفية نجد عودة إلى جنيالوجية للمفهوم الذي تشكل منذ اليونان انطلاقا من المسرح، فالشخص Persona اسم يطلق على القناع المسرحي الذي يرتديه الممثل لأداء دور معين على الخشبة، نجد لدى لالاند أيضا تمييز بين الشخص المعنوي والشخص الطبيعي، فالأول يتحدد بالوعي والفعل الأخلاقي والمسؤول والثاني يحيل على الجسد الإنساني. لكن الأهم عند لالاند أن هذا الجسد الإنساني يكون بمثابة تجسيد معنوي لهذا الشخص وهو المعبر عن سمته، فكلمة شخص حتى حين نطلقها بمعنى يشير للجسد لا يمكن قولها على جسم الحيوان فهي خاصة بالانسان، إن كلمة شخص بالعودة إلى المعنى المتداول لها في العصر الوسيط هي لفظ يطلق على الكائن الإنساني عندما يستوفي الدرجة الدنيا من التمييز الأخلاقي بين الأفعال الصادرة عن وعيه وردود أفعاله الغريزية، إن مفهوم الشخص في الفلسفة يستعمل بالمعنى الأجل عن الإنسان لما يتصف به من بعد أخلاقي في علاقته بذاته وبالآخرين.


الهوية:

يعني مفهوم الهوية ما تقتضيه الضرورة المنطقية لكي تكون هناك قضية ما صادقة أو كاذبة، ويقتضي مبدأ الهوية مبدأ التناقض ومبدأ الثالث المرفوع، فمبدأ التناقض يعني أن الشيء لا يمكنه أن يكون موجودا وغير موجود في نفس الآن، وأما مبدأ الثالث المرفوع فيعني القول أن القضيتين المتناقضتين لا يمكن أن تكونا صادقتين معا او كاذبتين معا، ومن شروط الضرورة المنطقية التي يعبر عنها مبدأ الهوية: 1- أن يكون المعنى المتصور محددا وثابتا، فلا يتغير بحال. 2- أن يكون الحق حقا والباطل باطلا دائما والأبيض أبيضا والأخضر أخضرا... وفي مختلف الأحوال، فلا يتغيران بتغير الزمان والمكان. 3- أن يكون الوجود بالحقيقة هو عين ذاته فلا يتغير، ولا يختلط به غيره. وهذا لا يصدق إلا على الموجود المثالي الذي يتجه إليه العقل ( يقصد المفاهيم والتصورات وليس الأشياء المحسوسة) إن هوية الشيء هي خصائصه الثابتة التي لا تتغير مهما تغيرت أعراض وصور هذا الشيء، فهوية الشيء هي ماهيته وجوهره وحقيقته الثابتة.

الشخصية:

يشير لفظ الشخصية المشتق من المصدر "شخص" في لغة التداول اليومية إلى حكم قيمة نحدد من خلاله مكانة وقيمة شخص ما بالنسبة للآخرين، ويكون أساس هذا الحكم هو الاستناد إلى معايير مادية تجد أساسها إما في الجانب الجسدي أو اللباس أو الوظيفة التي يشغلها فرد ما في المجتمع (محام/قاض/أستاذ/شرطي...) كما قد نقول في لغة التداول "هذه شخصية مرموقة/مشهورة" ويكون هذا الحكم مؤسس على البعد الرمزي للفرد وعلى إشعاعه الثقافي أو السياسي أو الرياضي ... أما الدلالة المعجمية فنجد في روبير Robert ولالاند lalande ومعجم larousse أن هناك اتفاق على أن للشخصية معنيين أساسيين: " معنى مجردا وعاما يجعلها خاصية كائن يكون شخصا أخلاقيا أو قانونيا مسؤولا، ومعنى محسوسا يكمن في ما يمثله الشخص من خاصيات أخلاقية سامية، يتميز بها عن مجرد الفرد البيولوجي وتشكل العنصر المنظم والثابت في سيرته وماهو عليه عادة مما يميزه عن غيره ليشكل الجانب الأصيل من أناه"، فإذا كان المعنى الأول، المجرد، يؤكد على أن الشخصية هي خاصية كل كائن بشري من حيث هو شخص مسؤول أخلاقيا وقانونيا، بقطع النظر عن مكانته الاجتماعية، فإن المعنى الثاني، المحسوس، يؤكد على طابع الخصوصية الذي يميز شخصيةكل فرد بحسب ما ينفرد به كشخص إزاء الغير.


·      مفارقات
ما يمكن الخلوص إليه من هذه التحديدات هو أنه إذا كان مفهوم الشخص يحيل على الذات الواعية والحرة والأخلاقية والمسؤولة باعتبار هذه الأبعاد هي ما يحدد هوية وماهية وجوهر الشخص فإن الشخصية تغدوا آنئذ هي المظهر الخارجي لذي يعبر عن كيان الشخص، بإيجاز إن الشخص هو جوهر داخلي في حين أن الشخصية هي نافذة هذا الجوهر على العالم والآخرين.

من خلال تحديدنا لمختلف الدلالات التي تحيل عليها المفاهيم المرتبطة بالشخص يمكن أن نلاحظ:
·      الدلالة اللغوية للشخص تعطيه بعدا ماديا يرتبط بالظهور والبروز للعيان، وهنا نكون أمام تصور للشخص يحصره في مستوى الجسم الشاخص (الظاهر والبارز) أمام العين المجردة.
·       في الفلسفة الإسلامية والمسيحية ينظر للشخص على أساس ثيولوجي (ديني) فكلما كان الشخص أكثر امتثالا لتعاليم الدين الإسلامي أو في المسيحية كلما نظر إليه باعتباره نموذجا الذي يحتدى به.
·       في الدلالة اللاتينية نلاحظ تحولا في المعنى الذي يشير إليه مفهوم الشخص فلم يعد مرتبطا بالجسم بل بالدور (الوظيفة) التي يؤديها على خشبة المسرح وعلى مسرح التاريخ والمجتمع.
·       في الدلالة الفلسفية يصبح شرط الوعي والحرية والتمييز الأخلاقي بين الخير والشر واحترام القانون والبيئة (الشخص الإيكولوجي) هو ما يعطي للشخص هويته وقيمته.
·       نلاحظ أن مفهوم الشخص يتداخل مع مفهوم آخر أساسي هو الشخصية، فإذا كان الشخص هو جوهر مفكر وذات واعية وحرة ومستقلة وأخلاقية فإن الشخصية هي التعبير الخارجي عن هذا المضمون الجوهري لأنها مجموع المميزات والصفات التي تميز هذا الشخص باعتباره "أنا" واعية ومفكرة وحرة ومستقلة وأخلاقية وحقوقية وإيكولوجية، ومن هنا تطرح صعوبة تحديد هوية الشخص: هل هي مجموع الصفات والمميزات الخارجية التي نجدها متغيرة من شخص لآخر أم هي الجوهر الداخلي الواعي الذي يصعب علينا إدراكه أو معرفته لكونه محجوبا علينا من طرف القناع (الشخصية) الذي يقدم به الشخص ذاته للعالم والآخرين؟
·       نلاحظ كذلك أن مفهوم الهوية الذي يحيل على التطابق: يضعنا أمام مفارقات عديدة فمن جهة يعتبر الشخص وحدة صورية ميزتها الفكر والوعي والفعل الاخلاقي الحر والمستقل عن أي إرادة خارجية ومن جهة نجد مجموعة من السلوكات التي يعبر فيها الشخص أحيانا بجسده وأفعاله وسلوكاته هي ما يحدد مكانته وقيمته داخل المجتمع، فمن جهة يعتبر الفكر والوعي والحرية مفاهيم صورية مجردة في تعتبر الأفعال والسلوكات وقائع مادية ملموسة، فأين توجد هوية الشخص هل في عالم الصوري الخاص البعيد عن باقي الذوات وهو عالمه الداخلي الذي يفكر فيه بمعزل عن الآخرين أم أن هويته مستمدة من جملة الأفعال والسلوكات التي يعبر بها في الواقع المعيش والتي تكون على العموم شخصيته؟
·     يتبين من خلال ذلك أيضا أن وحدة الشخص تفرض نوعا من العزلة الأنطولوجية (الوجودية) لكي يمارس الشخص قناعاته، لكن ضرورة "العيش بالمعية" مع الآخرين تفرض على هذا الشخص أن يغير ويكيف من تصوراته وسلوكاته مع ما يقبل به المجتمع وما يسمح به القانون، وفي هذا الصدد تصبح حرية الشخص واستقلاليته محط منازعة بين ما يرغب فيه ويريده الشخص وبين ما يتيحه ويسمح به المجتمع، ففي هذا السياق يصبح السؤال عن الحرية والضرورة مطلبا للفحص الفلسفي لكي نرى إلى اي حد يمكن للفرد أن يحقق حريته في ظل نسق من العلاقات الاجتماعية التي تمارس نوعا من الإكراه عليه؟ فإذا لم يكن هذا الشخص حرا ومستقلا بذاته فعليه الاستقالة من أي فعل أو التزام أخلاقي تجاه المجتمع والتاريخ أما إذا كان حرا فهذا يعني أن إمكانية الفعل والالتزام متاحة وممكنة؟
إنطلاقا من هذه المفارقات الفلسفية التي تضعنا أمامها الدلالات اللغوية واللاتينية والفلسفية لكل من مفهوم الشخص/الهوية/الشخصية يمكننا صياغة الإشكليات الفلسفية المرتبطة بمفهوم الشخص:

الإشكالية لمفهوم الشخص:

ما الشخص؟ ما هويته الشخصية؟ هل يستمدها من كونه جسم وسلوك وفعل ودور يقوم به في الحياة؟ أم هويته الشخصية هي جوهر ووعي وتفكير وحرية واستقلالية عن الآخرين؟ بعبارة أدق ما الواقعة التي تسمح للشخص أن يظل هو نفسه رغم التغييرات التي قد تطاله خلال مسيرته الحياتية؟ ومن أين يستمد الشخص قيمته؟ هل من مطابقته وانغلاقه واستقلاله عن العالم؟ أم من خلال انفتاحه والتزامه الأخلاقي الدائم تجاه العالم والآخرين؟ وهل الشخص حر في سلوكاته وأفعاله وأفكاره أم مجبر بحتميات (نفسية واجتماعية وثقافية) تحدد وتقيد فعله والتزامه تجاه المجتمع وحركية التاريخ؟

المحور الأول: ما الشخص؟



شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

أترك تعليقا