التجرِيبية هيَ كل مذهَب يرى أن المَعرفَة تكتسَب فقَط
(أو بشكل أسَآسي) من الخبْرة الحسّية، حَيث أنّ المَذهَب التجْريبي يؤكّد
علَى أهَمية التّجربَة الحسّية في مقآبل الأفكَار العَقلية الفِطريّة، وهَكذا فالتّجريبية
تتعَارض مع العَقلانِية التي ترَى أنّه من المُمكن بُلوغ المَعرفَة انطِلاقا
مِن العَقل وَحْده و دُون أيّ اعتمَاد عَلى الحَوَاس. يرتبط اسْم التجْريبية
الكلاسِيكيّة بجُون لوك، رَغم أنّ ثمة عناصِر فيهَا ترْجع إلَى عُهود أقْدم مِنه بِكثير
(في الفلسَفة اليُونانية أرِسطو مَثلا، و في الفلسَفة الإسلَامية إبن سِينا و
ابنُ الهَيثم) .
تكمُن جُذُور التجْريبية في فِكرة مَفَادها
أنّ كل مَا نسْتطيع مَعرفَته عَن العَالم هُو مَا يُخْبرنَا بهِ العَالم، يتوَجّب
أنْ نقُوم بمُلاحَظته بطَريقة مُحَايدة خَالية مِن العَواطف، وَأية مُحاولة مِن جَانبنا
لتعْديل عَملية اسْتقبَال هَذه المَعلُومَات أو التدَخّل فيهَا إنمَا تقُود إلَى
تشْويه وتَخيل عَشْوائي. مِن شَأن هَذا أنْ يطْرحَ صُورة للعَقل بوصْفه "صَفحَة
بيضَاء" (كَما يُعبر لُوك) تطْبع عَليهَا المَعلومَات عَبر الحَواس
فِي شَكل معْطيات حِسّية. والمُعْطيات الحِسّية هي "المُعْطى" قبْل كُل
تَأويل، وَالعقْل الذي لا يصْبح نشطا إلا بعدَ تلقي المُعطيات الحِسية، يقوم بمُداولتها
بطرق مختلفة، بحيث يجمع بينها أو يقوم بالتجريد انطلاقا منها، أو تشكيل مادة
أفكارنا ومفاهيمنا، ثم يشرع في اكتشاف علاقات بين تلك الأفكَار... هذه هي رؤية
التجريبي الكلاسيكي، لكنها تفضي مباشرة إلى إشكالية تؤدي بنا إلى الشك، إذ لو
كان العقل مقيدا على هذا النحو، حيث يعول بشكل كلي على المعطيات الحسية، فكيف يعرف
أي يتجاوزهَا؟ كيف يعرف أنها تمثل العَالم الخارجي فعلا؟ بل كيف يعرف أصْلا مَا
المقْصُود بالعَالم الخَارجي؟ يبدُو أنّ لوك لَم يأخذ هَذه الإشْكآلات علَى محْمل
الجِد، لكِنهَا مَآ لبثت أنْ برَزت عَلَى السّطح عِند أخْلافه، خُصُوصا بركلي ( وقدْ
تعرفنا عَلى مِثالية برْكلي لمَن لَم يقْرأ المَوضوع) وهْيُوم.
وقدْ تصْبح التجْرِيبية أكْثر تَطرّفا
عِندمَا تتخَلّى كُلية عَن الزعْم بمَعرفة عَالم خَارجي، وتصِر عَلى أنّ مَا نسَميه
عَالما خَارجيا مُجرد مُركب شكلته عقولنا، عمليا لا سبيل للقول بأنه مطابق للعالم
الخارجي الواقعي. وحَتى لا نطيل لَن نخُوض في الانتقادات التِي وُجهت لِهذا المَوقف
المتَطرف خَاصة مِن طرف كَانط و فتجنشتين...
يمْكن آعتبار الكَثير مِن الفَلاسِفة وَالكَثير
مِن جَوَانب الفلسَفة، أوْ مُقارباتها للمسَائل، تجْريبية. قَد يقتَصر التجْريبي
مثلآ عَلى معَارضَة صِيغ العَقلانية المتَطرِّفة، وقدْ يسَلّم بأن للعَقل دَورًا
في تشكيل المَعْرفة، مع الإصْرار عَلى إنكَار الحَقائق القبْلية، أيْ الحَقائق
التي يمكن معرفتها دونَ العَودة إلى الخبرَة. أما الاستثناءات البادية من قبيل
حقائق الريآضيَات والمَنطق لن يعْتبرهَا حَقَائق بأي معنَى أساسي، بل أقربُ لأن
تكون قواعِد إجْرائية، بحَيث أنّ إقرار أن "إثنَـان زائد إثنين يسَاوي
أربعَة" يعْني شيئا من قبيل " عندما تصادف شيئين وشيئين إفترض أن
لديك أربعة أشيَاء".
من الفلسَفات ذَات الصّلة بالتجْريبية يمْكن
أنْ نذكر الوَضْعية المَنطقية ( والتي تسَمّى أحْيانا بالتجْريبية المَنطقية)،
البرَاغْمَاتية وقد سَمّى وليم جيمس صِيغته الخَاصّة من التجْريبية "التجريبية
المتطرفة" رغم أنه ميزهَا عن البرَاغماتية، وكذلك الظَواهِرية، أمَّا
الفلاسفة فيمكن أن نذكر أرسطو، إبن الهيثم، إبن طفيل، وليام الأوكامي، فرانسيس بيكون، دافيد هيوم، كارل
بوبر ...
نشير في النهاية إلى أن بعض الترجمات العربية
تستعمل مصطلح الإمبيريقيَة Empiricism عوض التجريبية.
أترك تعليقا