في القرن الأول قبل الميلاد، وفي القرنين
الأول والثاني بعد الميلاد، نشاهد تيارا جديدا يغزو الفكر اليوناني ويكاد يتميز
تميزًا شديدًا جدا عمّا كان قبله من تيارات في الفلسفة اليونانية. وهذا
التيار الجديد بلغ أوجه عند شخصية فلسفية تعد من الطراز الأول بين الفلاسفة الذين
عرفتهم الإنسانية جميعًا، ونعني بها شخصية أفلوطين.
ولد في ليقوبوليس (أسيوط) اي أنه كان مواطنا
مصريا ذا إسم روماني وتربية يونَانية ! لم يهتم بدراسة
الفلسفة إلا عند بلوغه الثامنة والعشرين من عمره، وعندما قصد إلى الإسكندرية
وتتلمذ لأمونيوس الحمّال ولا يكاد يعرف شيء عن أمونيوس هذا سوى أنه من أبوين
نصرانيين ثم صبا إلى الدين اليوناني القديم. وقد أعجب أفلوطين أيمَا إعجاب وكان
يشيد بفضله عليه وينسب أراءه هو إليه، حتى لقد كان ينكر لنفسه كل أصالة ويقول أنه في
فلسفته إنما يشرح مذهب أستاذه أمونيوس الحمّال. وهذَا يذكرننا بموقف أفلاطون في
أستاذه سقراط.
وقد أعاد أفلوطين إلى الفلسفة سمعتها الطيبة
بأن عاش معيشة القديسين وسط ترف روما ورذائلها وبين أرستوقراطيتها الماجنة. فقد
كان زاهدًا متقشفا لا يبيح لنفسه أكل اللحوم ولا ينعم بالنوم إلا بقدر ما تضطره
إليه الحاجة، ولا يأكل من الخبز إلا قليلا ومن الطعام إلا ما يقيم الأوَد، وكان لا
يعنى بجسمه بل "لقد كان يستحي أن يكون لروحه جسد" على حد تعبير
فرفوريوس. ومن طريف ما يروى عنه أيضا أنه لم يسمح لفنان بتصويره لأن جسمه أقل
أجزائه شأنًا ولأن تصويره من شأنه أن يثبت ظلا لظل، وفي ذلك إشارة إلى أن الفن يجب
أن يعنى بالروح لا بالجسد.
أفلوطين |
ومرت الأيام والسنون وأدركته الشيخوخة وجاءه
فرض الموت، فانتهت حياة أستاذ من أعظم أساتذة العصر الإسكندري في القرن الثالث
الميلادي.
الأول (أو الواحد) عند أفلوطين
يرى أفلوطين أن الوجود الحقيقي إنما هو وجود
"الأول" أو "الواحد" أو الله بأسمى ما له من كمال الربوبية،
فكل شيء إنما صدر عن "الأول" والى "الأول" يعود، لأنه مبدأ كل
وجود.إنه الواحد الأوحد المطلق اللامتناهي الذي لا يوصف بأي وصف، لتفاهة جميع
الأوصاف وقلة شأنها وهوان أمرها، فلا يقال مثلا أنه جميل أو متصف بالجمال، ولكنه
فوق الجمال وعلتُه، بمعنى أن لا يدخل تحت صفة أعلا منه هي الجمال. وهكذا الحال في
بقية الصفات، فكلها دونه. فكل صفة إيجابية نصفه بها إنما هي تحديد له غير لائق به.
وكل ما نستطيع أن نسميه به هو أنه واحد وأول.
ثم إن كل صفة فمن شأنها أن تدخل فيه نوعاً من
التعدد والكثرة يجب تنزيهه عنه. فهو واحد من كل وجه: في الذهن والتصور، في الواقع
والحقيقة. فأفلوطين حريص على وحدة "الأول" متمسك بها لا يعدل عنها، بحيث
أنه لا يقبل أي نوع من التعدد، لا في الواقع فحسب، بل حتى في الذهن والتصور أيضا.
الواحد ليس إرادة، ولا يصح وصفه بالإرادة، إذ
الإرادة تخرج الواحد عن وحدته، إن لم يكن في الواقع فعلى الأقل في الذهن. وذلك لأن
الأرادة لابد فيها من مريد ومراد. فتصور الأنسان له مريدًا يستتبع –في الذهن على
الأقل – تصور أن يكون هناك مراد بإزائه. فالإرادة لابد فيها من مريد ومراد. ثم إن
الأرادة تدل على الأحتياج إلى الغير، والإحتياج يتعارض مع الوحدة المطلقة التي
للأول، بل تخرجه عن الأولية، فلا يكون هو الأول، بل إن المحتاج إليه سيكون حينئذ هو
الأول. وكما أن عدم الاتصاف بالإرادة ليس منقصة للأول، كذلك عدم الإتصاف بالعقل
ليس منقصة له أيضًا.
و أخيرًا لا يوصف "الأول" بأنه
جوهر أو عرض، لأن وصفه بأحدهما يستتبع وصفه بالآخر ولو في التصور الذهني على
الأقل. فتصور الذهن له بأنه جوهر يستلزم بالضرورة تصور عرض في مقابلته، وكذلك تصور
الذهن له بأنه عرَض يستلزم بالضرورة تصور جوهره في مقابلته، وكل ذلك من شأنه أن
يدخل في نوعًا من التعدد والكثرة.
ونتيجَة هذا كله أن "الأول" هو
الكائن الذي لا صفة له من صفات الحوادث. فهو لا يمكن نعته ولا يمكن إدراكه ولا
تحيط به الأفهام والعقول. فهو الغني بذاته، المكتفي بذاته، القائم بذاته، البسيط
المطلق الذي لا أول إلا وهو سابق عليه، ولا واحد إلا وقد استفاد وحدته منه.
نظرية الفيض
إذا كان الواحد هو مبدَأ الوجود وعلته فكيف
صدرت عنه الأشياء كلها؟ فمادام واحدًا على نحو مطلق فالتعدد لا يمكن أن يصدر عنه،
كما أنه لا يستطيع أن يخلق لأن الخلق فاعلية والواحد ساكن ويستبعد كل فاعلية...
لكي يخرجنَا أفلوطين من هذه الأسئلة المحيرة قال أن كل ذلك حدث بطريق الفيض (
ويقال له الصدور والإنبثاق). فالواحد بفضل كماله الفائق "يفيض" ويصبح
هاذا الفيض هو العالم، فكما أن اللهب يبعث النور، والثلج يبعث البرد، فالكائنات
تصدر عن الواحد. ولكن هذا الفيض لا يعني خروج الأول عن ذاته وفيضانه بما فيه
في الخارج أو على الخارج، كلا، فهذا من شأن الفيض المحسوس. فالواحد يبقى على حاله
دون أن ينقص منه شيء. "فالأول" هنا لا ينتقل منه شيء ليحل في شيء آخر،
وإلا لحدث تغير في ذاته، فهو لا يبذل شيئا من جوهره.
ولما كان يصعب التعبير عن كل ذلك بلغة العقل،
فقد عمد أفلوطين إلى لغة القلب يستعير منها الأمثال والرموز والتشبيهات، لتقريب
هذه المعاني إلى الأذهان، فالفيض يحدث كما يصدر النور عن الشمس دون أن يتغير جوهر
الشمس (نَعَم أنتَ مُحقّ، نَحنُ نَعلمُ أنّ جَوهَرَ الشّمس يَتَغَير، هُو مُجَرد
تشبيه، ضَع نَفسَك في زَمَن أفلوطِين J )، فالوجود بالقياس
إلى الأول هو بمثابة شعاع الشمس من الشمس. وهاك مثلا آخر يقرب به أفلوطين عملية
الفيض: فعندما يبلغ كائن ما كَماله نرى أنه يلد، فهو لا يطيق أن يبقى في ذاته بل
يبدع كائنات أخرى. فكيف يمكن للكائن الكامل أن يحبس خيره في ذاته.
والفيض الأول من الواحد هو العقل ويقال له
الأقنوم الثاني. وهذا العقل دون الأول، وأقل منه كمالا، والعقل والوجود عند
أفلوطين شيء واحد. فهو إذ كان يعقل "الأول" ويتأمله كان عقلا، وإذ كان
يتقوم به ويستفيد منه الوجود كان وجودًا. وهكذا يكون الأقنوم الثاني عقلا ووجودا
في آن واحد. فها هنا إثنينية (2) تسربت إلى أصل الوجود هي مبدأ التكثر والتعدد في
العالم.
ويضع أفلوطين هذا "العقل" في منزلة
صانع العالم الذي قال به أفلاطون، ويجعله أيضا متضمنا لمثل أفلاطون عدا مثال الخير
الذي هو الأول. فهو حين يفكر ينتج معقولات، وهذه المعقولات هي المثل الأفلاطونية،
بل إن هذه المثل جزء منه وليست مجرد اشياء مختزنة فيه. ولكن هناك بعض الإختلافات
بين كل من مثل أفلاطون وأفلوطين، فمثل أفلاطون ساكنة، في حين مثل أفلوطين دينامية
فاعلة. وهناك فرق آخر وهو أن مثل افلاطون محدودة توجد للأجناس والأنواع فقط، في
حين أن مثل أفلوطين توجد للأفراد يزيد عددها أو ينقص بحسب العصر، ومن هنا فهي لا
متناهية: وإذن فإن "العقل" لا يتصف بالإثنينية فقط، بل بكثرة لا نهاية
لها.
وعن الأقنوم الثاني يفيض جوهر أو كينونة هي
النفس الكلية. وهي كالعقل تنتمي إلى العالم الإلهي إلا أنها دونه درجة، كما أن
العقل دون الأول درجة. فهي تقف على تخوم العالم المعقول قريبة من العالم المحسوس.
وإذا كان العقل يموج بالحركة والدينامية والتغير، لما فيه من مثل تتصل بالفعل وقوة
الأحداث، فأولى بالنفس الكلية أن تموج بهذه الأشياء. ومن هنا قدرتها الخارقة على
أنتاج العالم المحسوس حالما تتوجه للعقل الذي صدرت عنه وتلتفت إليه لتتأمله وتجعله
موضوعا لتعقلها. وهكذا تفيض من النفس نفوس الكواكب ونفوس البشر وسائر المجودات في
العالم المحسوس.
أترك تعليقا