بالرغم
من حقيقة إجادته في هذا الشكل الأدبي، إلا أن أفلاطون لم يكن هو مبتكر الحوار
السقراطي، فبعد عدة أعوام من وفاة سقراط، كتب عدد من أقرانه السابقين بعض
المحاورات القصيرة، وكان سقراط هو المحاور الأساسي فيها، كما تكلم أرسطو في كتابه "فن الشعر" عن sokratikoi
lagoi (المحاورات مع سقراط) باعتبارها
تأسيس لجنس أدبي جديد، والمُبتكَر في تفسيري لأفلاطون هو محاولة موضعة أعماله
المبكرة في سياق هذا الجنس الأدبي.
لقد سادت
الدراسات الخاصة بالجنس الأدبي، في بعض المجالات، وبشكل ملحوظ في الدراسات
الإنجيلية، لما يقرب من ستة عقود، فقد قام دارسوا الإناجيل، على سبيل المثال،
بإلقاء الضوء على موضوع بحثهم، من خلال تأويلات تُعنى أساسا بالشكل الأدبي للسرد والأقوال
المحكية في كل إنجيل. ولقد كان صادما، بالنسبة لي، أن لم أجد، بحسب علمي، أي دراسة
تصنيفية للشكل الأدبي لمحاورات أفلاطون. هناك أسباب تاريخية تفسر ذلك، ولكنها لا
تعنينا هنا.
لكنني
أرغب في توجيه نظر القارئ إلى ملامح تصنيفية محدَدَة للأدب السقراطي، يمكن أن تكون
ذات أهمية كبيرة في فهم أعمال أفلاطون.
من
المثير للإهتمام رؤية كم المؤلفين الذين تعاملوا مع موضوع الآيروس eros السقراطي،
أي: موضوع الحب، في سياق فلسفة سقراط. نعرف منهم خمسة أو ستة على الأقل، وأيسخينوس([2]) Aeschines هو أفضل من نحفظ في هذا الأمر (بالإضافة إلى
أفلاطون وأكسينوفان). إذن، فمحاورة المأدبة Symposium لأفلاطون ليست الوحيدة في
تناول موضوع الحب، فعلى سبيل المثال، فإن
شخصية ديوتيما Diotima التي تقوم بدور معلمة سقراط في
محاورة المأدبة، نجد نظيرها في محاورة أيسخينوس المسماة "أسبازيا"ِAspasia ، شخصية أسبازيا، خليلة
بيريكليس، وأكثر النساء اشتهارا (أو سمعة) في أثينا في عهد بيريكليس. إن أسبازيا
شخصية تاريخية حقيقية، غير أن تناولها في محاوتي "أسبازيا" لأيسخينوس،
و"المائدة" لأفلاطون خيالي تماما. صورتها قصائد الشعراء الهزليين كامرأة
خليعة، تدير ماخورا، لكن سقراط يقدمها في محاورة أيسخينوس كمعلمة للفضيلة، وفي
محاورة "مينيكسينوس" يُلقي
سقراط خطبة تأبين، ويذكر أن مؤلفتها هي أسبازيا " في رثائها الذي كتبته لأجل بيريكليس".
أذكر هذا
المظهر المسلي للشكل الأدبي السقراطي لأنه يشير إلى ما أعتبره الدرس الأكثر أهمية،
والذي ينبغي تعلمه من دراسة هذا الشكل، أعني: أن تلك المحاورات هي في جوهرها أعمال
أدبية، نتاج خيال المؤلف، بالرغم من أن شخصيات المحاورات، تتسمى غالبا بأسماء أشخاص
تاريخيين حقيقيين. من ثمَّ، فعلى الرغم من أن المحاورات السقراطية تتضمن بعض السمات
التاريخية، فإنها لا تُعد، في نظرنا، سِيَراً شخصية، مثلما أشار المؤرخ أرنالدو
موميليانو([3]) في دراسة حول "تطور كتابة السير الذاتية في اليونان":
"لقد جرَّب السقراطيون السيرة الذاتية، غير أن محاولاتهم هدفت إلى رصد الإمكانيات
المحتملة للشخصيات، بأكثر من وقائع حياتها الحقيقية ... إن سقراط المذكور في
المحاورات لم يبدو كشخصه الحقيقي إنما كشخص ممكن ... ولما يُكتشف بعد ما يدل على الفاصل
بين الشخصية الواقعية والمتخيلة"(ص 64).
إذن، أمر
جوهري أن ننظر إلى الأدب السقراطي، بالرغم من إطاره التاريخي، باعتباره أدب روائي،
يغلب عليه الخيال. هذا الملمح الأساسي يميل
إلى التماوه والتخفي، خلف العظمة الفريدة لإنجاز أفلاطون؛ الذي يمكن أن نطلق عليه
الحوار التاريخي "الواقعي" الذي صاغه ليعطي انطباعا أدبيا بأنه رصد لأحداث
واقعية، مثل أي رواية تاريخية جيدة. وحيث أن فن أفلاطون قد حقق درجة فائقة من
النجاح، فإنه يتولد لدينا الإحساس بأنه ينقل حوارا سمعه بالفعل، وخلاله يطور سقراط
التاريخي([4]) أفكاره بنقاشه مع محاورين حقيقيين. ولا يختلف عن ذلك في صدق أثيره
عندما تكون شخصية المحاور نفسه مختلقة من قبل أفلاطون (مثلما هو الأمر في حالة
كاليكلس([5]) Callicles في محاورة "جورجياس" Gorgias)، أو تصور شخصا لم يلقه
أفلاطون أبدا (مثلما الأمر في حالة بروتاجوراس Protagoras الذي مات ولم يزل أفلاطون
طفلا ). إن محاورة "بروتاجوراس" لا تُعد خيالية فحسب، بل إن أحداثها ترجع
إلى فترة ما قبل مولد أفلاطون، حيث لم تكن هناك كاميرات فيديو أو أشرطة تسجيل!
بالرغم من ذلك، فإننا نشعر، كقراء لمحاورة "بروتاجوراس" أن ثم إطار
تاريخي خالص يحيط بالحوار. لقد قدم المؤرخون المحترفون نظريات جديدة بخصوص
بروتاجوراس، على أساس من نصوص أفلاطون. أعتقد، أنهم، بالتأكيد، قد وقعوا أسْرى لفن
أفلاطون.
هذا
التأثير بالإيهام بحقيقية الأمر، هو ما أطلق عليه: الوهم البصري للمحاورات: أي أن
هذه الأعمال التي تنتمي إلى الأدب الخيالي للقرن الرابع، يُمكن، وغالبا ما يحدث،
أن تتم قراءتها باعتبارها توثيق للتاريخ الفكري للقرن الخامس، أو كما لو أنها
تنتمي إلى عصر سقراط بأكثر من إنتمائها إلى عصر أفلاطون.
ستتضح
أهمية هذه الحقيقة في تفسير أعمال أفلاطون إذا استهللت بتقديم عرض موجز لما أعتبره
"حالة التساؤل".
إن تفسير
فكر أفلاطون يشتمل على مشكلة فريدة؛ فلا يوجد نظير لأي فيلسوف عظيم، هذه، إلى حد
ما، مهمة الحقيقة التي تذهب إلى أن أفلاطون فيلسوف فريد من المرتبة الأولى، وأنه
أيضا أديب شديد التميز. غير أن المشكلة لا تنشأ فحسب من السمة الفنية لأفلاطون،
وإنما تنشأ كذلك عن الشكل الأدبي المحدد الذي اختاره (أعني: الحوار السقراطي)،
وكذلك عن النحو الذي استخدم فيه هذا الشكل الأدبي.
قبل كل
شيئ، هناك إخفاء للهوية في الشكل الأدبي للمحاورة، وبحسبه لا نسمع صوتا لأفلاطون أبدا. سيكون من
الطبيعي بالنسبة لنا أن نتوقع ظهوره في محاورة "فيدون"، ففيها يجتمع
المقربون من أتباع سقراط حول معلمهم في أخر أيام حياته، قبلما يتجرع السم. فيها
يستهل فيدون، راوي المحاورة، بسرد أسماء أتباع سقراط، الموجودين، ذلك اليوم، في
زنزانة سقراط، وحينما يصل إلى ذكر اسم أفلاطون، يتردد فيدون، قائلا:
"أفلاطون، أعتقد أنه مريض". لم يكن التعلل بالمرض أكثر ملائمة منه هنا!
وحيث أن
أفلاطون نفسه لا يظهر ، فإننا نتجه باهتمامنا نحو سقراط. لكن، هل يعبر سقراط دوما
عن أفكار أفلاطون؟ أم أنه يعبر عن أفكار افلاطون تارة، وتارة لا؟ أم أنه لا يعبر
أبدا عن أفكار أفلاطون مباشرة؟ وكيف يُفترض بنا، نحن القراء، أن نحدد ذلك؟
تزداد شدة
هذه الصعوبة، بما يبدو من تعارض بين الأفكار المنسوبة إلى سقراط، في المحاورات
المختلفة. لعل أشد الأمثلة درامية لهذا التعارض نجده في المواقف المتناقضة تجاه اللذة،
في محاورتي "جورجياس"، و"بروتاجوراس". في محاور ة
"بروتاجوراس" يدافع سقراط عن التطابق بين اللذة والخير، وهو ما يدحضه،
بنحو منهجي، في محاورة "جورجياس".
هل بدَّل
أفلاطون رأيه؟ أم اعتبر ذلك تنوعا بشأن التذكر، حيث الإختلافات أقل درامية، لكن
ليست أقل دلالة. في محاورة "مينون" نجد نظرية التذكر بدون مُثُل
ميتافيزيقية، ولدينا، في محاورة "فيدون"، نظرية للتذكر مصحوبة بالمُثُل،
والتي تمثل موضوعا للتذكر، أما في محاورة "الجمهورية"،
فلدينا نظرية المُثُل من دون نظرية التذكر، وفي محاورة "فايدروس" تجتمع
نظريتا المُثُل والتذكر مجددا. ماذا نفعل بإزاء هذا التنوع؟
في تاريخ
التفسير الأفلاطوني، هناك ثلاثة نظرات معروفة:
1ـ النظرة
التعددية Pluralism : وهو التفسير الذي دافع عنه جورج جروت Gorge
Grote ،
المؤرخ العظيم لليونان. بحسب جروت، لم يكن لدى أفلاطون اعتقاد ثابت ومستقر، إنه
باحث صادق في سعيه، يتبع النقاش إلى حيث يأخذه. بمقدوره رؤية المشكلات أكثر كثيرا
من رؤية الحلول، لذا فإننا نٌبقي على التعارض ما بين المحاورات.
2ـ النظرة
التطورية Developmental : كما مثلها التيار الدراسي العام في عالم اللغة الإنجليزية (كتاب جوثري Guthrie "تاريخ
الفلسفة اليونانية" مثال قياسي لهذه النظرة). بحسبها، ينتقل أفلاطون من مرحلة
سقراطية مبكرة، تحت التأثير الطاغي لفلسفة معلمه، وتتسم فيها المحاورات بطرح
العديد من التساؤلات من دون تقديم إجابات قاطعة، أو بكونها غير حاسمة، إلى مرحلة
متوسطة تنضج فيها فلسفته الخاصة. (بحسب هذه النظرة، فهناك مرحلة "نقدية" متأخرة، وهي لا تعنينا في هذا المقام). خير مثال للمرحلة المتوسطة هو
محاورتا "فيدون" و"الجمهورية"، اللتان تميزتا بتناول نظرية
المُثُل الميتافيزيقية. (يمثل التفسير الذي قدمه جريجوري فاليستوس([6]) مؤخرا المثال الأوضح للنظرة التطورية، إذ يرى فاليستوس أن الفلسفة
السقراطية المبكرة لا تتمايز فحسنب عن مرحلة نضج أفلاطون الوسطى، بل أنها تتعارض
معها).
3ـ النظرة
الموحِدَة Unitarian: يرجع التفسير الموحد إلى شليرماخر([7]) Schleiermacher، الذي يميل إلى القول
بنظرة فلسفية واحدة، تقوم عليها كل، أو معظم المحاورات. بحسب شليرماخر فإن ترتيب
كتابة المحاورات هو نفسه ترتيب التعليم الفلسفي. بينما تذهب مدرسة توبنجن Tűbingen المعاصرة إلى عدم أهمية
الترتيب؛ طالما أن الرسالة المضمرة هي نفسها: فجميع، أو معظم المحاضرات تلمح إلى
"نظرية غير مكتوبة"؛ أو ما يُسمَّى: نظرية المبادئ الأولى. والمثال
الأمريكي الأوضح لهذه النظرة الموحدة هو
بول شوري Paul shory، الذي ألَّف كتابا بعنوان "وحدة الفكر الأفلاطوني".
نأتي
الآن إلى بيان وجهة نظري في المسألة، وهي ليست أي مما سبق. لكن إن لزم تصنيفي، فمن
المؤكد أنني أتعاطف أكثر مع التراث الموحد. هناك، بالتأكيد، تغير ملحوظ بين
المحاورات التساؤلية (غير الحاسمة) من جهة، وبين محاورتي "فيدون"
و"الجمهورية" من جهة أخرى، لكني أميل إلى اعتبار ذلك تطور في مسيرة
أفلاطون ككاتب، وأنه بمثابة علامات تميز مراحل مختلفة في مساره الأدبي بأكثر منه تمييز
لمراحل مختلفة في مساره الفكري. (هناك نوع مختلف من التغير في فكره السياسي بين
محاورة "الجمهورية" ومحاورة "القوانين"، لكني لا أنشغل، في
هذا المقام، بأي من المحاورات التالية لمحاورة "الجمهورية" ومحاورة
"فايدروس").
ربما تكون
هناك بعض المحاورات المكتوبة قبل أن يتشكل الفكر الميتافيزيقي لأفلاطون بنحو تام. (أفترض
أن ذلك صحيح بالنسبة لخمس محاورات: "المحاكمة"، و"كريتون"،
و"أيون"، و"هيبياس الصغرى"، و"جورجياس").
لكن ذلك لا ينسجم مع الفكرة المعتادة عن "المرحلة السقراطية" لأفلاطون.
في رأيي أن هناك سبع محاورات (سقراطية تماما)، ينبغي قراءتها باعتبارها تمهيدية،
بمعنى: أنها تقصد إلى تمهيد الطريق إلى محاورات المرحلة الوسطى. هذه المحاورات
الممهدة هي: "لاخيس"Laches، و" أوطيفرون"Euthyphro، و"بروتاجوراس"،
و"مينون".
سوف أعرض
تصورا لما أعنيه بالمحاورات التمهيدية، لكن لأوضح أولا، أن تفسيري ثنائي: سلبي
وإيجابي، تفكيكي وبنائي.
في
البداية، نستهل بالتفكيك، ويهدف ذلك إلى تقويض "النظرة
السائدة" لمرحلة في أعمال أفلاطون المبكرة، ومفادها أن الفلسفة ـ في هذه
المرحلة ـ هي بنحو جوهري تعبير عن فلسفة سقراط. كما أقصد، كذلك، إلى تحدي سلطة
أرسطو ، الذي يرجع إليه أصل هذه الفكرة. المحصلة المعتادة لهذه النظرة: سرد تاريخي
زائف لفلسفة سقراط، وتفسير للمحاورات، يخلف تصورا افتراضيا للسيرة الفكرية
لأفلاطون.
من
الواضح أن أرسطو، لغرض في نفسه، قد حصر فلسفة سقراط في البحث عن تعريف، في محاورات
مثل "لاخيس"، و"أوطيفرون"، وفي إنكار akrasia ([8]) (ضعف الإرادة) في محاورة "بروتاجوراس". لكن أرسطو ليس
بالمؤرخ الثقة للفلسفة، فمن المعروف أنه فرض مخططه المفاهيمي للعلل الأربعة([9]) four causes على تطور الفلسفة ما قبل سقراط. بل إنه أقل موثوقية في سقراط، الذي لم يترك
تراثا مكتوبا.
يجدر بنا
أن نتذكر أن أرسطو وصل أثينا وهو في السابعة عشرة من عمره، بعد أكثر من ثلاثين
عاما من موت سقراط. كان يفصله عن سقراط ثلاثة عقود من الأدب السقراطي، ومن الواضح
ما لمحاورات أفلاطون من أهمية لاشتمالها على المحتوى الفلسفي لتلك الفترة. إن
التراث الشفاهي لللأكاديمية([10]) يمكن أن يؤكد لأرسطو أن نظرية المُثُل تنتمي إلى أفلاطون لا إلى
سقراط. بعد ذلك، فإن أرسطو كان معتمدا على نفسه وحده في البحث، لذا فقد تعرف على
فلسفة سقراط من خلال المحاورات المبكرة لأفلاطون، وكذلك فعل الرواقيون الأمر نفسه
لاحقا.
إذن، فقد
كان أرسطو والرواقيون مهتمين بالفلسفة لا بالتاريخ في ذاته، وبالنسبة لهم فقد قامت
شخصية سقراط بتعيين موضع محدد في قلب نقاش نظري، لكن الباحثين المحدثين، الذين
اقتفوا أثرهما، رأوا أن أفلاطون كان يكتب تاريخا، وحيث أنهم يتعاملون مع إبداعات
أفلاطون الأدبية كما لو كانت وثائق تاريخية، فستكون النتيجة سردا تاريخيا زائفا لفلسفة
سقراط. ومما يزيد الأمر سوءا، في نظري، هو ما يترتب على فهمنا لأعمال أفلاطون
ذاتها.
اتجه
الباحثون، الذين اعتقدوا استطاعتهم تمييز فلسفة سقراط في المحاورات المبكرة
لأفلاطون، إلى النظر إلى المحاورات المختلفة باعتبارها نقاط انطلاق في مسيرة أفلاطون، بداية
من مرحلة التلمذة على سقراط، وحتى تحقيقه لمكانته كفيلسوف أصيل مستقل. غير أن هذا
السرد للتطور الفلسفي لأفلاطون لا يزيد عن كونه افتراض نظري؛ إذ لا يستند إلى أي
توثيق مستقل. بحسب ما أقدمه من نظرة بديلة لذلك، فليست مراحل التطور الفكري
لأفلاطون هو ما نرومه، مما يسمى بالمحاورات السقراطية المبكرة، وإنما هو الكشف عن استراتيجيته
التعليمية، من خلال تأليفه لسلسلة من المحاورات، متقنة الصياغة، بقصد تهيئة عقول
قرائه لتحقيق فهم متعاطف مع رؤيته الجديدة، والثورية، وغير المعتادة، للواقع ـ رؤية
بسطها في نهاية الأمر، بنحو متدرج، وجزئي، في أعماله الأدبية.
كي نكون
منصفين، كذلك، لعبقرية أفلاطون كمؤلف فلسفي، يلزم أولا أن نخلصه من ظل، أو بالأحرى
من سراب سقراط التاريخي. هذا هو سبب أهمية دراسة الشكل الأدبي السقراطي، وشخصياته
الخيالية، وكما ذكر أحد الكتاب المعاصرين، موجزا نتائج ثلاثة عقود في الدراسات
المتخصصة حول سقراط: "يختفي سقراط التاريخي من المشهد، وبدلا منه تظهر شخصية
أدبية متعددة الأشكال، شخصية سقراط السقراطيين([11])".
من ثم،
في رأيي، فإننا ما نعرفه عن فلسفة سقراط قليل جدا، وإذا تجاوزنا مفارقة أن أحدا لا
يُقدم على ارتكاب الخطأ طوعا (كما أن أحدا لا يكون سيئا طوعا)، فإن القليل الذي
نعرفه عن فلسفة سقراط نجده في محاورة "المحاكمة" Apology لأفلاطون،
وهو ليس حوار خيالي، بل تسجيل أدبي لحدث جماهيري، هو محاكمة سقراط. ذاك حدث حضره
أفلاطون بنفسه، مع غيره من مئات الأثينيين. نتيجة ذلك، كان هناك قيود تاريخية تلزم
أفلاطون في عرضه لسقراط في محاورة "المحاكمة" فحسب دون غيرها من
المحاورات. إن المحاورات في غالبها حوارات شخصية، ولأفلاطون الحرية في تصويرها كما
يشاء، واستنادا إلى التماثلات في أعمال ايسخينوس، وفيدون، وإكسينوفان، يمكننا ملاحظة أن الدقة التاريخية، أو حتى
إمكانية التراتب الزمني، لم تكونا من ملامح الجنس الأدبي.
لقد كان
الموقف الأخلاقي لسقراط، واستعداده لمواجهة الموت، بالإضافة إلى ارتكاب فعل ينافي
العدل، من الأمور البالغة الأهمية بالنسبة
لأفلاطون، غير أننا لا نملك أية تفاصيل عن فلسفة سقراط، يتوفر لنا على أساس منها مفاتيح
لفهم فلسفة أفلاطون، أو تفسير أعماله المبكرة.
عند هذا
الحد، نكون قد بلغنا نهاية مرحلة التفكيك. نشرع الآن في مرحلة البناء، وأرغب
ابتداءا في وضع مخطط لتفسيري، يتضمن أمرين: الأول: البحث الفلسفي، والثاني: البحث
الأدبي.
لنبدأ
بالبحث الفلسفي. ما هي الأفلاطونية Platonism؟ (التي تبدأ بحرف "P" الكبير) إنها ليست مذهبا في الكليات
universals ،
ذلك مذهب أرسطو . كما أنها ليست مذهبا في الموجودات المجردة (مجموعات من الأعداد)،
ذلك مذهب الأفلاطونية platonism التي تبدأ بحرف p" " الصغير([12]). إنها مجرد تمييز تلقائي بين الخصائص (مثل التساوي)، وبين الأشياء
التي لها هذه الخصائص (مثل العُصي والأحجار). ذلك أحد مظاهر عمل أفلاطون، والذي قد
يعتبر الأكثر جاذبية للفيلسوف المعاصر. وبالنسبة لأفلاطون فتلك ليست القضية
الأساسية.
إن فلسفة
أفلاطون في جوهرها نظرة علوية حول طبيعة الواقع، وموقع النفس الإنسانية: بحسب هذه
النظرة فإن "العالم الحقيقي" عالم غير مرئي، وهو مصدر كل قيمة، وأصل كل
بناء عقلي، وهذا يفسر ما ذهب إليه سقراط، في محاورة "فيدون"، من وصف
الفلسفة بأنها أشبه بتجربة الموت، حيث
يعني الموت خلاص الروح من الجسد، ومن ثم إمكانية عودتها إلى العالم المبارك لكل ما
هو خير، وصدق، وجمال.
تعد
محاورة "فيدون" التعبير الأقوى لهذه الرؤية الفلسفية، غير أن صداها
يتردد لاحقا، على سبيل المثال في محاورة "ثياتيتوس"، التي جاء فيها:
"يستحيل للشر أن ينمحي، إذ يلزم وجود ما يناقض الخير، أما بين الآلهة، فلا موضع
للشر، فمن الضروري أن يظل هائما في هذا العالم ، وفي الموجودات الفانية، لذا كان
علينا محاولة الفرار من هذا العالم الأرضي إلى العالم العلوي بأسرع ما يمكننا. أن
تفر يعني أن تحاكي الإلهي، وأن تماثله بأقصى ما تستطيع، والتماثل يعني أن تكون
عادلا تقيا وحكيما".
هكذا، تُكرر
محاور "ثياتيتوس" التصور المذكور في محاورة "فيدون". لقد تم
تصوير كلا من الفضيلة الأخلاقية (التي يمثلها الموقف الأخلاقي لسقراط في
المحاورات)، والحكمة الفلسفية (كما تمثلت في الدياليكتيك الذي يهتم بتعريف الجواهر)،
باعتبارهما المسار الذي يقود الروح الإنسانية إلى العالم الروحاني، العالم الإلهي،
حيث لا وجود للشر.
هذا هو
جوهر نظرة التصوف الشرقي، أو أفلوطين، وتراث الأفلاطونية المحدثة إلى العالم. على أية حال، فمن غير الواضح أن يكون
مفهوم "التصوف" هو المناسب لفلسفة أفلاطون. إن النظرة العقلانية
الأساسية لتصوره تم تأكيدها بمشاركة الرياضيات، بعتبارها الوسائل المميزة للتعاطي
مع الواقع. إن الأهمية المركزية للرياضيات عند أفلاطون مرجعها إلى الدور الذي تقوم
به بالابتعاد بنا عن العالم الحسي، وإن ليس بعيدا جدا! فإنها لا تأخذ بنا إلى السحر، أو إلى تجليات لا عقلانية، كما هو
الحال في الأفلاطونية المحدثة.
أود القول أن ذلك الفهم العلوي للمعنى والصدق، وذلك التصور بأن كل ما
هو خير وحقيقي يقبع في عالم متجاوز للحس، هو لُب فلسفة أفلاطون. يجب علينا فهم
نظرية المُثُل، والتمايز الميتافيزيقي بين الوجود والصيرورة Being
and Becoming،
باعتبارها الإفصاح العقلي لتلك النظرة العلوية. قد يفوت على المرء إدراك الفكرة
الأساسية لفلسفة أفلاطون إذا ما استهل فهمه باعتبارها تقدم حلولا لمشكلة
الذوات المجردة، أو حلولا لمشكلات فلسفة اللغة، أو لمشكلات فلسفة العقل ـ كنظرية
للتصورات، أو كنظرية للمفاهيم. بل إنه من الخطأ الظن أن أفلاطون بدأ بالأخلاق،
مثلما هو الفهم السائد عنه.
من المؤكد أن أفلاطون فيلسوف شامل، وبناء على ذلك، فقد اهتم بكل هذه الموضوعات، وأيضا بالسياسة في المقام
الأول. لعل الاهتمام الدائم لأفلاطون بالسياسة والإصلاح الأخلاقي في المدينة (كما
بدا في محاورات "جورجياس"، و"الجمهورية"، و"السياسي"، وفي محاورته الأخيرة "القوانين") هو الدافع المحرك الوحيد في فلسفته، الذي يستقل بنحو جوهري عن انشغاله
بالعالم العلوي. إن المركز المهيمن لمحاورة "الجمهورية"، لكونها عملا أصيلا
لأفلاطون، قد يحول دون فهم متوازن لفلسفته. فمحاورة "الجمهورية" تنتمي
إلى العالم الأرضي، واهتمامها كله بالمواطن العادل، والمجتمع العادل. ربما ننجرف
إلى النظر إلى أفلاطون كشخصية منفصمة: ميتافيزيقي حالم، بالتناوب مع مصلح اجتماعي،
وسياسي طامح، ومشرِّع. حتى أن الغاية من وجود الملك الفيلسوف في محاورة "الجمهورية"
هي تأسيس الرابطة بين العالمين: عالم المُثُل، وعالم المدينة.
لقد تم التعبير، جزيئا، عن النظرة الميتافيزيقية لأفلاطون، التي ترى
هيمنة الجانب الروحي، في فقرة قصيرة في محاورة "المأدبة"، في نهاية
الدرس الذي ألقته ديوتيما عن الحب (كما سنرى بعد قليل)، أما عرضها الوافي فجاء لأول
مرة في محاورة "فيدون"، خلال النقاش الدائر حول خلود النفس وما بعد الموت.
إن موت سقراط وإضفاء القداسة عليه، هو اختيار أفلاطون، ليكون الحال مناسبا للكشف عن نظريته الجوهرية
والأكثر أهمية، ولم يكن الأمر مصادفة أن تقدم لنا محاورة "فيدون"، بالإضافة
إلى ذلك، أول تقرير منهجي لنظرية المُثُل. فيمكن النظر إلى ميتافيزيقا أفلاطون على
أنها تعبير عن فهمه الخاص لمعنى حياة سقراط وموته.
والآن، فإن نظرة أفلاطون لأولية العالم العلوي غير المرئي، هي النظير
الميتافيزيقي للمذهب الفيثاغوري الأورفي Orphic-Pythagorean في الروح([13])، مع تعهدها بالشروع في التخلص من دورة التناسخ. وفي عالم صارم في
ماديته، وتنافسيته، ستكون هذه الأفكار "الشاذة"([14]) ، في أثينا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، هي الداعم الروحي
الوحيد لأفلاطون، إذ لم تكن البيئة الإجتماعية في أثينا لترحب بهذه النظرة
المختلفة للعالم العلوي. فينبغي لنا، من هذه الوجهة، أن نتفهم الحذر الذي التزمه
أفلاطون ككاتب.
إن تبصر أفلاطون لما قد يلقاه من عداء محتمل، وجمهور غير مهيأ لتقبل أفكاره، هو ما أعاننا على
فهم دافعه إلى اللجوء لتلك الاستراتيجية البلاغية، باستخدام العبارات غير
المباشرة، واستعانته بآلية صنع الأساطير، وكذلك تريثه في البداية، ثم شروعه
المتدرج والاستهلالي في عرض نظريته الميتافيزيقية الخاصة بالعالم العلوي.
هنا ننتقل إلى الجنب الاستدلالي الثاني في تأويلي: البحث الأدبي.
لن أتعرض هنا لأي تفاصيل تخص المحاورات السبع ذات النسق التمهيدي،
والتي استفاد فيها أفلاطون من الأسلوب التساؤلي، من أجل تهيئة جمهوره لاستجابة
أكثر تعاطفا مع نظرته الميتافيزيقية الجوهرية. من بين هذه المحاورات، أكتفي
بالإشارة إلى محاورة "مينون". لكن دعوني أبدأ بإلقاء نظرة سريعة على
اثنتين من المحاورات التي ألفها أفلاطون كعرض استهلالي للُبِّ مذهبه: العالم
العلوي، ونظرية المُثُل.
تلكما النظريتين تم تقديمهما إلى العالم، لأول مرة، في اثنتين من أكثر
المحاورات قوة ودرامية: محاورة "المأدبة"، ومحاورة "فيدون"، وهما معا يشكلان ثنائيا، أو جناحا طائر. في
"المأدبة"، المشهد حفل شراب، احتفالا بإنتصار أجاثون خلال المهرجان
الديونيسي: هنا نلتقي بسقراط الشاب، أما في محاورة "فيدون" فنلقاه
مسجونا، حيث يخيم شبح الموت، في نقاشه الأخير حول الخلود، وقبل وقت قصير من نهاية
حياته.
في حفل أجاثون نسمع سلسلة من الكلمات حول الحب. كانت كلمة سقراط تتضمن
دروسا عن الحب، كان قد سمعها من كاهنة غير معروفة تُدعى ديوتيما. في الفقرات
الأخيرة لكلمته، تكشف ديوتيما عن آخر أسرار الحب،والتي رأت أن سقراط نفسه ربما لا
يكون مؤهلا لمباشرتها. لقد تم تصوير ذلك الكشف النهائي كمعراج للحب، في قمته تحصل
المعاينة المبهجة للجمال ذاته. "هناك، تكون حياة الإنسان المستحقة للعيش، متأملا
الجمال ذاته". هنا، ليس لدينا نظرية للمُثُل، وإنما رؤية رائعة لموضوع
ميتافيزيقي منفرد: الجمال في ذاته. ثم ينضم ألكيبيادس المخمور، لاحقا، إلى الحفل،
فلا نعود نسمع شيئا عن الميتافيزيقيا (فقط بعض التلميحات الموجزة عن نظرية
المُثُل)، كما لم يرد ولو كلمة واحدة عن
النفس الخالدة؛ فالحديث عن تناسخ الأرواح ما كان ليؤخذ جديا من تلك الصحبة
الدنيوية من أهل الطبقة الراقية. لقد أعد أفلاطون عرضه لنظريته بنحو دقيق ليناسب
جمهوره المتَخَيَّل.
في محاورة "فيدون"، من جهة أخرى، تواجهنا حالة مغايرة تماما؛
فالمشاركون هم الدائرة المقربة من رفاق سقراط المخلصين، فدار النقاش في كامل
المحاورة حول مصير الروح، وعُرضت نظرية المُثُل عرضا منهجيا وافيا، وفي هذا الموضع
وُصِفَت الفلسفة كتدريب على الموت، بمعنى: التدرب على الحالة المستقبلية للنفس
الخالصة من الجسد، في اتصالها بالواقع المتعالي الذي تمثله المُثُل الميتافيزيقية.
أؤكد على أن هذا الأداء المصاغ بدقة، لتقديم أفلاطون لجوهر فلسفته، يجب
أن يُنظر إليه كنتاج تصميم فني مقصود. لا يوجد سبب يجعلنا نفترض على الفور أن
هاتين المحاورتين تعكسان تجربة جديدة من جانب أفلاطون؛ فلقد استغرقه الأمر طويلا
للإعداد له.
الحقيقة، أن هناك العديد من التلميحات إلى ما أدعوه لُب الفلسفة في
الأعمال المبكرة، فعلى سبيل المثال: يقتبس سقراط في محاورة "جورجياس" من
يوربيدوس([15]) قوله: "من يعلم ما إذا كان ما نعتبره حياة يكون هو الموت، وما
نعتبره الموت يكون هو الحياة في العالم الأرضي؟"هذا تصوير واضح للنظر إلى
الروح في العالم العلوي. لكننا لا نجد أثرا للمُثُل، أو لميتافيزيقا الوجود في
محاورة "جورجياس".
المثال الأكثر أهمية للكتابة التمهيدية، والمقدمات الاستهلالية للمذهب،
نجده في محاورة "مينون"، ففيها نرى بوضوح كشفا جزئيا للموقع الجوهري، في
مذهب أفلاطون، للتعلم باعتباره تذكراً Recollection. وتتضمن نظرية التذكر
افتراضا مسبقا بخلود الروح (وهي النظرة التي تتعارض تماما مع التراث الفكري
اليوناني)، كما أنها تسبغ على الروح المتناسخة نوعا من المعرفة الأولية. غير أننا
لا نجد ذكرا للمُثُل في محاورة "مينون". إذ يجب أن ننتظر محاورة فيدون لتخبرنا أن المُثُل الميتافيزيقية هي
موضوع التذكر.
بحسب النظرة التطورية، كان أفلاطون ليكمل نظريته في المُثُل بعد ما كتب
محاورة "مينون"، وقبل أن يكتب محاورة
"فيدون"، غير أن هذا الافتراض يتصف بكونه متعسفا؛ فإذا أمعنا النظر إلى
الجدل في محاورة "مينون"، سندرك أنه على الرغم من عدم ذكر المُثُل، إلا
أن الحال يقتضي وجودها.
في محاورة "مينون" تُطرح نظرية التذكر كاستجابة لمفارقة
مينون Meno's
Paradox ، تلك المفارقة التي أثارها مبدأ أولية التعريف، بحسبه ينبغي عليك
معرفة ما هي "س" ، ليتاح لك معرفة أي شيئ عن "س". لكن، كيف
ستبدأ؟ في هذه اللحظة تواجهنا مفارقة مينون في تساؤله: ليس بمقدورك الشروع في
البحث؛ لأنك لا تعلم عن أي شيئ تبحث، بالإضافة إلى ذلك، فإنك لا تعرف كيف تميز ما
تبحث عنه، حتى إذا وجدته.
الحل الذي قدمه سقراط هو
التذكر: أنت تعلم بالفعل ما هو "س"، لأنه سبق لك أن تعلمت كل شيئ في
حياة سابقة، بالتالي، لا تحتاج إلا إلى ما يُذكرك.
لكن، كيف يساعدنا ذلك؟ كيف يُفترض للتذكر أن يكون حلا لمفارقة التساؤل؟
كيف تعلمت كل شيئ في حياة سابقة؟ إذا كانت الحياة السابقة تشبه هذه الحياة،
فسنواجه تكرارا للمفارقة.
إذا قدم لنا التذكر حلا، فهذا يعني أن الوجود السابق لم يكن مجرد حياة
إنسانية عادية، وإنما مباشرة النفس، الخالصة من البدن، أتصالا معرفيا مباشرا مع
الجواهر القبْلِية. وهكذا، فإن موضوعات التذكر، لتفادي مفارقة مينون، ينبغي لها أن
تكون هي ذاتها جواهر روحية متعالية: بتعبير آخر: المُثُل الأفلاطونية. إذن فإن
ميتافيزيقا أفلاطون، ونظريته في المعرفة، اقتضاهما الجدل في محاورة "مينون"،
وإن لم يتم التعبير عنهما بشكل مباشر.
إذا ذهبنا إلى الشك في إمكانية أفلاطون أن يكتب بمثل هذا الأسلوب غير
المباشر، الذي قصده في محاورة "مينون"، فسينتج عن ذلك أنه سينهج هذا
الأسلوب في محاورة "فيدون" فقط، ويؤكد ذلك النظائر الموحية في محاورة
"مينون" نفسها. لقد تم تصوير التذكر بواسطة درس في الهندسة، فيه نرى عبد
غير متعلم، يتعلم (أو: "يتذكر")
كيفية مضاعفة مساحة المربع. يخبره سقراط أنه بإمكانه مضاعفة أي مربع مُعطى بالقيام
برسم المربع على المحور القُطري. والآن، فإن هذا الشكل يصور، أيضا، نتيجتين
رياضيتين مهمتين: (1) نظرية فيثاغورس الرياضية (مساحة المربع المُنشأ على وتر
المثلث القائم الزاوية تساوي مجموع مساحة المربعين المنشأين على الضلعين الأخرين
للمثلث) (2) وجود المقادير غير المتكافئة، أو ما نسميه الأعداد غير النسبية([16])، حيث أن طول وتر المربع يساوي الجذر التربيعي للعدد اثنين.
لماذا لم يذكر أفلاطون شيئا عن تلك الحقائق الرياضية المهمة؟ الأمر
واضح؛ فهو يكتب لنمطين من الجمهور: وهو يتوقع من القراء الأعلى ذكاءا والأوفر
ثقافة، أن يقوموا بأنفسهم ببعض التفكير. تلك حالة مشابهة للرابطة بين التذكر
والمُثُل. مجرد أن يكون الشخص على دراية بالهندسة سيرى المغزى من مضاعفة المربع،
وكذلك كل من له معرفة بميتافيزيقا أفلاطون فسيدرك ما الذي يجب أن تكون عليه
موضوعات التذكر. ربما يُعد النقاش غير المكتمل حول التذكر في محاورة "مينون"،
مثالا لما أدعوه الكتابة الممهدة في المحاورات الإستهلالية، أو ما قبل الوسطى.
لأقم الآن بسرد الاستنتاجات، مبينا بإيجاز الميزات الإيجابية لبحثي حول النظرة التقليدية التطورية
للمحاورات المبكرة.
1 الجانب
السلبي: التخلص من بعض الأحداث التاريخية غير المؤكدة، ولا يدعمها دليل: السرد
التاريخي الزائف لفلسفة سقراط، وادعاءات تطور أفلاطون الفكري، غير الموثقة.
2 المساهمة
الإيجابية: وهي ثنائية: أولا: قد أصبح لدينا نظرة موحدة لفلسفة أفلاطون، على الرغم
من بعض التعديلات والتنقيحات لنظرية المُثُل، فالرؤية الميتافيزيقية للعالم العلوي
تظل مركزية في أعمال أفلاطون الأخيرة كذلك. (اقتبست آنفا فقرة من محاورة
"ثياتيتوس" حول الخلاص من الشرور أن نماثل الإلهي، هذه النظرة العلوية
هي أكثر بروزا في محاورة "تيماوس"، مع أصداء لها في محاورتي
"السفسطائي" و"فيليبوس")
ثانيا: تحقيق فهم أكثر استقرارا لبراعته في
تأليف المحاورات. مع ذلك، يظل لدى أفلاطون مشكلة؛ فمن جهة، هو مؤلف درامي موهوب،
ويعد واحد من أعظم الكتاب في العالم. من جهة أخرى، هو أحد تلاميذ سقراط، الذي لم
يترك تراثا مكتوبا، وإنما مارس التفلسف في كل كلمة نطق بها، وفي كل لحظة من حياته.
كان أفلاطون شديد الإنتباه لصعوبات وسلبيات نشر الفكر الفلسفي عبر
الكتابة، ففي محاورة "فايدروس" يقارن الكتاب بالتمثال، الذي يبدو حيا،
لكنه يعطي نفس الإجابة، دوما، حينما تسأله. ولذا فإنه يصر على أن الفيلسوف الجاد،
أبدا، لا يأخذ كتاباته مأخذ الجد.
تلك إذن هي مشكلة أفلاطون؛ كيف يمكنه الاستفادة من موهبته الأدبية
لتغيير العالم، من خلال التواصل مع جمهور أكبر ـ يحمل رسالته إلى المستقبل ـ بينما
يظل ، في الوقت ذاته، في ولائه لحسِّه الفلسفي، حيث التبادل الحي للأفكار خلال
النقاش، والأسئلة والإجابات، والحُجَج والاعتراضات؟ وبفضل العناية الإلهية، تيسر
له الحوار السقراطي كشكل أدبي جماهيري. لقد تمكن أفلاطون، وأفلاطون وحده، من تحويل
ذلك الشكل الأدبي قليل الأهمية ("المناقشات مع سقراط")إلى شكل فني ذو
أهمية كبيرة، وإطار للتعبير عن فكر فلسفي عظيم الشأن. وقد دام أفلاطون على ولائه
للتراث السقراطي، فاقتصرت كتابته على المحاورات فقط، ووسم أرقى أشكال الفلسفة بمصطلح من ابتكاره:
الدياليكتيك dialiektike، والذي يعني حرفيا: "فن المناقشة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
المترجم:
ناصر الحلواني
كاتب
ومؤلف ومترجم، حاصل على ليسانس الآداب قسم الفلسفة جامعة القاهرة، وعضو اتحاد
الكتاب المصري.
ترجمات:
كتاب "التأويل والتأويل المفرط" أمبرتو إكو (طبعة آفاق الترجمة ـ مصر، وطبعة
مركز الإنماء الحضاري ـ سوريا)، والعديد من المقالات.
ـ
ــ
مترجم عن : A New Interpretation of Plato's Socratic Dialogues