المدرسة الرواقية



زينون - الرواقية
مؤسس المدرسة الرواقية هو زينون القبرصي أو الكتيومي ، وهو يوناني من أصل فينيقي، ولد حوالي 336ق.م وتوفي حوالي عام 274ق.م. بشاع أنه اتبع طريق الفلسفة لأنه فقد كل أملاكه في حادث غرق سفينة، فاتجه إلى أثينا وتعلم الفلسفة على يد كراتِس الكلبي وستيابو من ميجارا وبوليمو من الأكاديمية، لكن الفيلسوف الذي أثر فيه كثيرا هو ديموقريطس. وفي حوالي عام 300ق.م أسس مدرسة في رواق بوكيلي ومن هنا جاء إسم الرواقية، لم يكن زينون يكن احترامًا كبيرا للآراء الموروثة،وكان له من استقلال الفكر ما يستطيع به أن يقاوم السخرية والمعارضة معًا. وفكره، حسب ما بلغنا من شذرات، يتناول ثلاثة حقول من المعرفة: المنطق، الطبيعيات والأخلاق. بعد وفاته (منتحرًا حسب ما يروى) خلفه كلينتيس ثم كريسبوس كزعيمين للمدرسة، وكان كريسيبوس رجلا له إنتاج هائل وعمل دراسي ضخم. ولقد ألف أكثر من سبعمئة كتاب ولكنها فقدت جميعًا، وبالرغم من أنه ليس مؤسس المدرسة إلا أنه كان العمود الرئيسي في الرواقية، ولقد جذبت المدرسة العديدين من الأتباع وازدهرت لعدة قرون لا في اليونان فقط بل فيما بعد في روما حيث كبار الكتاب من امثال ماركوس أورليوس وسنيكا وإبكتيتوس وهم يعدون أنفسهم من أتباع هذه المدرسة.

"لقد كان زينون يطمح في المقام الأول، شأنه في ذلك شأن أرسطو، إلى توحيد الفلسفة في كل واحد"
-هيجل.



نظرية المعرفة

يرى الرواقيون أن كل معرفة تدخل إلى العقل من خلال الحواس، فالعقل (لوحة بيضاء) تنقش عليها انطباعا الحواس، والعقل قد يكون له نشاط معين خاص به لكن هذا النشاط قاصر تماما على المواد التي تقدمها أجهزة الحس الفيزيائية، وبطبيعة الحال تتعارض هذه النظرية تمام التعارض مع مثالية أفلاطون الذي يرى أن العقل وحده هو مصدر المعرفة والحواس هي مصادر وهم وخطأ. ولقد أنكر الرواقيون الحقيقة الميتافيزيقية للمفاهيم، فالمفاهيم هي مجرد أفكار في العقل وليس لها حقيقة خارج الوعي.

الرواقيون يذهبون إلى أن النفس عند الميلاد تكون كالصفحة العارية النقية من أي معرفة وعارية من أي أثر وهذا الموقف يشبه موقف جون لوك.

ولما كانت كل معرفة هي معرفة بموضعات الحس فإن الحقيقة هي ببساطة مطابقة انطباعاتنا مع الأشياء، فكيف يمكن لنا أن نعرف ما إذا كانت أفكارنا نسخًا صحيحة من الأشياء. كيف نميز بين الواقع والتخيل أو الأحلام والأوهام؟ ما هو معيار الحقيقة؟ إنها لا يمكن أن تقوم في المفاهيم لأن المفاهيم من صنعنا نحن ولا شيء حقيقي سوى انطباعات الحواس ولهذا فإن معيار الحقيقة يجب أن يقوم في الإحساس نفسه. إنها لا يمكن أن تكون في الفكر بل يجب أن تكون في الوجدان. ويقول الرواقيون إن الأشياء الحقيقية تنتج فينا شعورا هائلا أو قناعة بحقيقتها وقوة الصورة وحيويتها هما اللذان يميزان هذه الإدراكات الحسية الحقيقية عن الحلم أو الخيال. من ثم فإن معيار الحقيقة الوحيد هو هذه القناعة الفريدة حيث الحقيقي يفرض ذاته على وعينا ولا يمكن إنكاره. ويمكن هنا ملاحظة الإنزلاق إلى الذاتية الكاملة، ولا يوجد معيار أساسي كلي للحقيقة، فهي لا تقوم على العقل بل على الشعور، وكل شيء يتوقف على القناعات الذاتية لدى الفرد.

فلسفة الطبيعة

القضية الأساسية في فلسفة الطبيعة الرواقية هي أنه " لا وجود لشيء غير مادي"، وتنسجم هذه المادية مع النزعة الحسية لمذهبهم في المعرفة. لقد وضع الرواقيون الحقيقة فيما هو معروف بالحواس أي المادّة، ويرون أن كل الأشياء حتى النفس، وحتى الله، مادية ولا شيء أكثر. ويقوم هذا الإعتقاد على اعتبارين:



الأول، أن وحدة العالم تقتضيه فالعالم واحد ولهذا يجب أن يصدر عن الواحد، كما أنه يجب أن تكون لدينا نزعة واحدية حيث أنه لا يمكن تجاوز الهوة الحاصلة بين المادة والفكر إلا بالوقوف في صف المادة ورد العقل إليها.

وثانيا نجد أن الجسم والنفس هما زوجان يؤثران في بعضهما. فمثلا الجسم ينتج الأفكار (الإنطباعات الحسية) في النفس والنفس تنتج الحركات في الجسم، وهذا سيكون مستحيلا إذا لم يكن كلاهما من الجوهر نفسه. إن المادي لا يمكن أن يؤثر في اللامادي، والعكس صحيح فليست هناك نقطة التقاء ومن ثم فيجب أن يكون الكل ماديا بالتساوي.

ولما كانت كل الأشياء مادية: فما هو النوع الأصلي للمادة أو ما هي المادة التي صنع منها العالم؟ لقد اعتمد الرواقيون على هيراقليطس، وقالوا أن النار هي المادة الأولية للوجود وكل الأشياء مؤلفة من النار، ولقد ربط الرواقيون هذه المادة بوحدة الوجود، والنار الأولية هي الله فالله مرتبط بالعالم تماما كما ترتبط النفس بالجسم، والنفس الإنسانية أشبه بالنار وتأتي من النار الإلهية، إنها تنفذ وتتسلل في الجسم كله، وكذلك فإن الله أو النار الأولية تحيط بالعالم كله، إنه نفس العالم والعالم جسمه.

ولكن بالرغم من هذه المادية فإن الرواقية تؤكد أن الله هو العقل المطلق، وليس هذا عودة إلى المثالية، إن هذا لا يتضمن لا جسمانية الله فالعقل مثل كل شيء آخر مادي. إنه يعني ببساطة أن النار الإلهية هي عنصر عقلي، ولما كان الله هو العقل فإنه يترتب على هذا أن العالم محكوم بالعقل وهذا يعني شيئين:

أولا أن هناك غرضا في العالم ومن هنا يأتي النظام والتناغم والجمال والتصميم.
ثانيا لما كان العقل هو القانون فإن هذا يعني أن الكون خاضع لسيطرة القانون وهو محكوم بالضرورة الصارمة للعلة والمعلول. ومن ثم فغن الفرد ليس حرا، ولا يمكن أن تكون هناك حرية حقيقية للإرادة في عالم محكوم بالضرورة.

إن سيرورة العالم دائرية، حيث أن الله يغير الجوهر الناري لذاته اولا إلى هواء ثم إلى ماء ثم إلى تراب ومن ثم ينشأ العالم، لكنه ينتهي بحريق تعود منه كل الأشياء إلى النار الأولية، وبعد هذا في وقت محدد من قبل يحول الله نفسه ثانية إلى العالم، ويترتب على قانون الضرورة أن الدور يسير فيه هذا العالم الثاني وكل عالم تال سيكون متماثلا في كل شيء مع الدور الذي سار فيه العالم الأول، والسيرورة تستمر إلى الأبد وما من شيء جديد يحدث إطلاقا (العود الأبدي عند نيتشه :) ).

والنفس الإنسانية جزء من النار الإلهية وتنطلق إلى الإنسان من الله، ومن ثم فهي نفس عقلية وهذه نقطة ذات أهمية قصوى في الأخلاق الرواقية، غير أن نفس كل فرد لا تأتي من الله مباشرة فالنار الإلهية انبثت في الإنسان الأول ومن بعد هذا تنطلق من الوالد إلى الطفل في فعل الإنجاب، وبعد الموت تستمر النفوس في الوجود الفردي حتى الحريق العام حيث تعود هي والأشياء الأخرى إلى الله.

الرّوَاقيَة: الأخلاق


تقوم التعَاليم الأخلاقِية الرّواقية على مبدَأين أساسين همَا: أولا، أن الكَون محكُوم بقانُون مطلَق لا يسمَح بأي استثنَاء، ثانيا: أنّ الطبيعَة الجَوهريَة للإنسَان هي العَقل، وكلاهُما يتلخّصَان في الشّعَار الرّواقي الشّهير: "عِشْ وِفقَ الطّبِيعَة". هذَا المبدَأ الذي وضعه أتباع زينون بينما نجد أن زينون نفسه كان قد وضع مبدأ يكاد ينطبق على هذا المبدأ وهوَ "يجب أن تَكُون حيَاتك منسَجمَة مع نفسهَا". فالرواقيون يرونَ أن الأشياء جميعًا تنظمهَا قوانين كلية ضرورية شاملة، وأن الإنسان يستطيع أن يكتشف هذه القوانين، وأن يسير بمقتضاها، ولكن إتباعه لهذه القوانين ليس عملا آليا يفرض عليه قسرا كَحركَة الآلة إلا أن يشعر بسلوكه وبأفعاله. فرغم أن الإنسان سيفعل بمقتضى الضرورة في العالم والتي تضطره فإن الضرورة قَد أعطيَت له هو وَحده لا لإطاعة القَانون فحسب بل للإستناد إلى طاعته واتباع القانون بوغي وتعمد بمثل ما يفعل الكَائن العاقل.

إذن الفضيلة هي الحياة بمقتضى العقل والأخلاقيات هي ببساطة الفعل العقلاني، إن العقل الكوني هو الذي يدبر حياتنا وليس الهوى والإرادة الذاتية للفرد. والإنسان الحكيم يلحق - بوعي – حياته بحياة الكون كله ويدرك نفسه كمجرد ترس في الآلة الكبرى.

وإذا استعرضنا الميول الطبيعية وجدنا أن أهمها و أكثرَها عمُوما هي غريزة حب البقاء. وبهذا المعنى نميز بين ما يساعدُنا على الاستمرَار وما يهدِم بقاءنا أي بين ما هو موافق لقانون الطبيعَة وماهو مضاد لها. وعلى هذا الأساس فإن ما يوافق بقاءنا سيكون نافعًا وما يعارض بقاءنا فَهُو ضَار. وهكذَا فالنافع هُو الذي يؤدّي إلى سعَادتنا، فخير الإنسان وفضيلته هو في مطَابقته للإرادَة الكلية، إرادة هذه الطبيعَة التي تُريد بقَاء الإنسان...

وترتكزُ سعَادة الرجل الفاضل في حريته وتحرره من الإنفعال والضيق وفي هدوئه واستقلاله الدّاخلي. ولكن الطبيعة الإنسانية تشتمل على نزوات غير معقولة أيضا وهي نزوَات جَامحة يلخصها زينون في أربعَة هي: اللذة المطلوبَة لذاتها ثم الشهوة والقلق والخوف. ولذلك كانت الفضيلة عند الرواقيين في صراع دائم مع هذه النزوات المعارضة للعقل وللطبيعة.




ولكننا يجب ألا نتساهل معها إذا أصبحت عادات فنحاول التخفيف منها أو تعديلها تعديلاً جزئيا وحسب، بل يجبُ التشدّد في اقتلاع جذورهَا واستئصَال شأفتها إذ يجب أن يكُون الرجل الفاضل حرًا من هذه النزوات المعارضة للقانون الكلي العام.


لكن، إن كان الإنسان خاضعًا للطبيعَة وَلا يستطيع عصيَان قوانينها، ما هي فائدة دعوة الإنسان لإطاعة قوانين الكَون عندَما لا يستطيع بأية حَال أن يفعَل شيئًا آخر باعتباره جزءا من جهاز العَالم الآلي العظيم؟ الفرق كما سبق وأشرنا هو أن الحكيم واعٍ بهذه الضرورة والوعي بالضرورة بداية التحرر. فالإنسان الجاهل يقع ضحية لوهم الحرية معتقدًا أنه ملك مصيره فيكون ذلك سبب تعاسته.

أكّد لَقد الرواقيون أن الفضيلة وحدهَا خيرة والرذيلة وحدها شريرة وكل شيء عدَا هَذا لا قيمَة له بالمرّة، والفَقر والمَرض والألم والموت ليست شرُورا، الصحة واللّذة والحَياة ليست خَيرات، فقد ينتحر الإنسان وفي تدميره لحياته لا يدَمّر شيئًا له قيمَة. وفوق كلّ شيء اللذَة ليست خَيرة ولا يجب أن يبحث الإنسَان عَنهَا، والفضيلَة هي السّعَادة الوحيدَة و يجب علَى الإنسان أن يكون فاضلا لا من أجل اللذَة بل من أجل الواجب.

إن الفضيلَة تتأسس على العَقل ومن ثم تتأسس على المعرفَة، ومن هنا تأتي أهمية العلم والفيزياء والمنطق وهي ليست لها قيمَة في ذاتها بل لأنها أسس الاخلاقيَات والفضيلَة الأولى وجذر كل الفضَائل الأخرى هي الحكمَة، والإنسان الحيكم مرادف للإنسان الطيب الخير. ومن الفضيلة الجذرية، وهي الحكمَة، تصدر أربع فضائل محورية هي التأمل والشجاعَة والتحكم في النفس والعدل. ولكن لما كانت كل الفضائل لها جذرٌ واحد فإن من يمتلك الحكمَة يمتلك الفضَائل كلها ومن تنقصُه تنقصه الفضائل كلها. والإنسان إمّا أنه فاضل تمامًا أو شرير تمَامًا. فالرواقيون لا يؤمنون بشيء إسمه "الإنتقال التدريجي" من الرذيلة إلى الفضيلة أو العكس، فهم لا يجعلون وسطا بين الفضيلَة والرذيلَة. فالإنتقال من حالة إلى حالة آني وسريع. أما من يتدرج في الحكمة فهو ليس بحكيم إذ الحكمة لا تزيد ولا تنقص بل هي حالة مستمرة، والحكيم هو مثال الكمال والحكمة هي الإساس الوحيد للسعادة. وإن سألت الرواقيين عن مثال هذا الحكيم فهم سيشيرون إلى سقراط وديوجين الكلبي.



شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

أترك تعليقا