نزعَة الشك تعني المَذهب الذي يشُك أو يُنكر إمْكانية
المعرِفة. ولهَذا فهو مذهب يدمر الفلسفة نظرا لأن
الفلسفة تزعم أنها تسعى وراء المعرفة. ولقد سبق أن التَقينا بها
عِند السوفسطائيين فعندما يقال إذا كان
هناك شيء موجود فإنه لا يمكن معرفته إنما يكون هذا تعْبيرا مبَاشرا عن رُوح الشك،
ونجد عبارة بروتاغوراس: "الإنسان مِقياس كل الأشياء"
ترْقى إلى الشّيء نفسه لأنها تتضمّن أن الإنسَان لا يستطيع أن يعرف الأشيَاء إلا كَما
تَظهر له لا كما هي في ذاتها، في العصور الحديثة نجد أكبر ممثل للشك هُو دِيفيد هيوم الذي حاول أنّ يبين أن أكثر مقولات التفكير الأسَاسية
مثل الجَوهر والعِلة وهمية. وعادة ما تنتهي النزعة الذاتية إلى نزعة الشك،
فالمعرفة هي علاقة الذات بالموضوع وإنّ وضْع التأكيد المتطرف القاصِر عَلى أحد
الطرفين وهو الذات مع تجَاهل المَوضُوع إنّمَا يفضي إلى إنكار حقيقة كل شيء فيما
عدا مَا يبدو للذات وكان هذا هو الحَال مع السفسطائيين. والآن لدينا معاودة
ظهور لظاهرة مماثلة. والشكاك الذين سنتناولهم ظهروا في حوالي الوقت نفسه الذي ظهر
فيه الرواقيون والأبيقريون.
والإتجَاهات الذاتية لهذه المَدارس المتأخرَة نجد
نتيجتها المنطقية عند الشكاك.
تختلف مواقف الشكاك في هذا العصر من حيثُ أسبابها
واتجَاهاتها عنها عند أوَائل الشّكاك في فترة ازدهار الفلسفة
اليونانية. وتتمثل مذاهب الشكاك في العصر المتأخر في
أربعة مواقف:
أولا: مدرَسة الشّك الأولى عند بيرون و أتباعه، وقد
غلب عليها الإتجاه الأخلاقي مع عزوف ظاهر عن البحث في
المنطق والعلم الطبيعي.
ثانيا: شكاك الأكاديمية أصحاب مذهب الإحتمال، وهؤلاء هم الذين انتهوا بمذهب أفلاطون إلى الشك.
ثالثا: الشكاك الجدليون: ويعد موقفهم الشكي استمرارًا فموقف بيرون.
رابعا: الشكاك التجريبيون: وكان معظمهم من
الأطباء، وسموا بالتجريبيين لأنّهم قالوا بإمكان تنظيم التجْربة بالتجربة نفسِها دُون
الحاجة للرجُوع للعَقل أو إلَى حَقائق الأشيَاء ومَاهياتها.
وَلقد كَان الشك في العَصر القديم شَكا نَافيا
هادما متهكّمًا.
بيرون Pyrrhon
مُواطن وَكاهن مِن إيليا، ولد في بلدة إيليس حوالي عام 370ق.م. يقال أنه صاحب الإسكندر
في رحلته إلى حدود الهند وتعرف على الفلاسفة العراة "gymnosophists "، قد كان بيرون
أول من استأنف سيرة الشك التي اثارها ديموقريطس وبروثاغوراس
من قبله، وكان ينشد تحقيق طمأنينة النفس وسكينتها مثله في ذلك مثل مُعاصِريه الأقل
منه سنا زينون الرواقي وأبيقور،
وقد شَك في أمكانية الوصول إلى هذه الحالة عن طريق الفلسفة النظرية. إذ يرى أن
التأمل يدفع بنا إلى مَتَاهات الخِلافات النظرية، إذ في استطاعة الفيلسوف أن
يبرهن على صحة الفكرة وعلى صحة نقيضها في نفس الوقت، وإذن فلا يمكن أن نصل إلى
هدوء النفس وسكينتها، إي إلى ما يحقق لنا السعادة باتباعنا
أسلوب الفلسفة النظرية وبما تدعيه لنفسها من قدرة على إدراك ماهيات
الأشياء أي الأشياء في ذاتها، ينما نحن لا ندْرك سوى الظواهر إذ هي وحدها البينة
بذاتها، لهذا رأى أن الحكمة تكمن في العدول عن الإثبات أو النفي، وَالامتناع عن
الجدل وتعليق الحكم (épokhé) والوقوف عند الظواهر، وعندما يتحقق الحكيم من هذا
سَيتوقف عن تفضيل اتجاه للسلوك على آخر والنتيجة هي اللامبالاة، وفي هذه
اللامبالاة سينبذ كل الرغبات لأن الرغبة هي الرأي بأن شيئا أفضل من شيء آخر. وهكذا يعيش في سكينة تامة وفي راحة تامة للنفس متحررا من كل
الأوهام. و الانسان الحكيم - وقد تحرر من الرغبات –
متحرر من التعاسة. ومع هذا فطالما أن الحكيم مضطر أن يسلك فإنه سيسير وفق الاحتمال
والظن والعادة والقانون ولكن دون إيمان بالصدق الجوهري لهذه المعايير أو حقيقيتها.
شكّاك الأكاديمية
بعد بيرون، أخذَت النزعَة الشكية
في التراجع، لكنها سرعان ما بدأت تظهر من جديد في مدرسة أفلاطون حين كانت تحت
قيادة أركِسيلاوس، ومنذ ذلك الوقت أصبحت تسمى
بالأكاديمية الجديدة. وأهم ما ميّز الأكاديمية
الجديدة هو معارضتها للرواقيين الذين هاجموا أعضاءها. وكان الرواقيون أقوى وأكثر
نفوذا ومقدرة من كل الذين كانوا في ذلك الوقت ينادون
بآراء فلسفية إيجابية، ومن ثم اختصتهم الأكاديمية الجديدة بالهجوم
باعتبارهم أعظم القطعيين (يتخذون تأكيدَات قطعية دون أسس سليمَة)، حيث هاجم اركِسيلاوس عقيدتهم بشأن معيار الحقيقة. فالقناعة الواضحة
التي ترافق الحقيقة - في نظر الرواقيين- ترافق الخطأ
بنفس الدرجة. ولا يوجد معيار للحقيقة سواء في الحس أو
العقل، يقول: "لست متيقنًا من شيء. بل إنني حتى
لست متيقنا أنني لست متيقنًا من شيء".
بعد أركِسيلاوس، أصبح كارنِيَادِس، وهو يعد أعظم الشكّاك الأكاديميين،
زعيمًا للأكاديمية حوالي 156 ق.م. تخلى عن مبدأ تعليق
الحكم و اعتمد على الاحتمال، حيث يجب على الإنسان أن يسعى للسلوك الحسن فحتى لو
كان اليقين والمعرفة مستحيلان فإن الاحتمال مرشد كاف للعمل. ومن بين البراهين التي
قدمها أنه "لا يمكن البرهنة إطلاقا على شيء ما لأن النتيجة يجب أن تبرهن
عليها مقدمات وهذه بدورها تقتضي برهانا وهكذا دوليك (إلى ما لا نهاية)".
كما أنه "يستحيل أن نعرف ما إذا كانت أفكارنا عن شيء ما حقيقية أي ما إذا
كانت تماثل الشيء لأننا لا نستطيع أن نقاون بين فكرتنا
والشيء في نفسه ... ولهذَا لا نستطيع أن نقارن بين الأصل
والصورة نظرا لأننا لا نرى سوى الصورة".
سكستوس أمبريكوس
كان من أواخر الشكّاك اليونان وأكثرهم جرأة، وكان
طبيبا ذائع الصيت ماهرا في صناعة الطب، في نهاية القرن
الثاني وبداية القرن الثالث الميلادي. وهو واحد من الأطباء الذين سموا بالتجريبين لاعتمادهم على التجربة فقط. ترك مجموعة من الحجج
ضد العلم/المعرفة، في كتابه Adversus mathematicos والذي
يعني "ضد معلمي المعرفة" (في مصدر آخر كتابين "ضد التوكيديين" و "ضد الرياضيين"1 / وفي غيره ثلاثة كتب 2) حيث يرد على الرياضيين والفلاسفة والمناطقة.
لقد هاجم سكستوس العلم
لأنه بما تتميز به مبادئه من جلاء ووضوح صلح أن يكون
الملجأ الأخير للدوغمائيين. وهذا الشّاك التجريبي لا
يكتفي بإنكار اليقين في علوم النحو والبيان والموسيقى والفلك فضلا عن الفلسفة
وعلومها، بل هو يصل إلى حد إنكار اليقين في الرياضيات كالهندسة والحساب. فاليقين بالنسبة له ليس ميزة لأي علم من العلوم، ففي الرياضة
كما في علم الطبيعة والأخلاق و المنطق كل شيء غامض مبهم مثير للشك والتناقض سواء في
النظريات أو في المناهج.
ويمضي سكستوس في حملته
الشكية فيرى أنه حتى بيرون إمام الشّكاك قد وقع
في حبائل الدوغمائية حينما جزم باستحالة اليقين في مجال
الميتافيزيقا المشائية التي تدعي معرفة الأشياء في
ذاتها، إذ أن موقف بيرون هذا إنما يعد نوعا من الدوغمائية
التي تتعارض مع اتجاه المدرسة الداعي إلى تعليق الحكم والإمتناع
عن إبداء الرأي إيجابا أو سلبا.
وقد كان منهج سكستوس
في مؤلفاته على مقابلة العقائد الفلسفية بعضها ببعض وبيان أن الإعتراف
بحقيقة من الحقائق يؤدي إلى نفي حقيقة أخرى، أي في خاتمة المطاف إلى إلغاء كل
حقيقة. وقد أصبحت هذه الحجة حجة بيان تناقض المذاهب الفلسفية بعضها ببعض، ولهذا
فإن أهمية سكستوس أمبريكوس
ليست في أنه أتى بشيء جديد، وإنما فيما خلفه لنا من عرض، إن لمذهب الشكاك
القدماء والمحدثين سواء بسواء، أو لمذاهب فلاسفة قد ضاعت كتبهم. فمن خلال تصديه لمختلف الفلسفات القديمة بالنقد والتهجم، أعاد
رسم تاريخها، ومدنا بمعلومات عن كبار الفلاسفة اليونان.
________________________________________________
1 خريف الفكر اليوناني، عبد الرحمان بدوي. ص85. كذلك معجم الفلاسفة، جورج طرابيشي، ص: 367.
2 تاريخ الفكر الفلسفي: أرسطو والمدارس المتأخرة، محمد علي أبو ريان، ص 311.
2 تاريخ الفكر الفلسفي: أرسطو والمدارس المتأخرة، محمد علي أبو ريان، ص 311.
________________________________________________
حجج الشكاك
أورد أركسيلاس حججا عشرا
لتبرير تعليق الحكم في المحسوسات، وثلاث حجج ضد العلم.
وهذه الحجج العشر، جمعها من قدماء الفلاسفة ومن الأكاديمية الجديدة: الأولى
إن اختلاف الأعضاء الحاسة في الحيوان والإنسان يستتبع أن لكل نوع إحساساته الخاصة،
فالرؤية مثلا تختلف باختلاف تركيب العين ويختلف اللمس باختلاف جلد الحيوان فإنه
منه المغطى بصدف أو ريش أو قشر أو شعر، ويختلف الذوق باختلاف رطوبة اللسان
ويبوسته، وإذن فلنا أن نقول عن الشيء المدرك بالحواس إنه يبدو لنا كذا، لا إنه كذا
في ذاته، إذ لا يسوغ لنا أن نفرض أن إحساساتنا أصدق من أحساسات الحيوان. الحجة
الثانية: أن اختلاف الناس جسما ونفسا يستتبع اختلاف إحساساتهم وأحكامهم فكيف الإختيار؟ هل نرجع للإغلبية؟ ولكن
التجربة لا يمكن أن تتناول الناس جميعًا، ثم إن الأعلبية
تختلف بين بلد وبلد، بين عصر وعصر، فيتعين العدول عن الإختيار
والامتناع عن الحكم. الحجة الثالثة: إن الحواس تتعارض بإزاء الشيء الواحد،
فالبصر يدرك بروزا في الصورة واللمس يدركها مسطحة، والرائحة اللذيذة الشم مؤذية
للذوق ... ومن يدرينَا لعل تباين الإدراكات الحسية ناشيء من تباين حواسنا، وإذن فنحن هنا أيضا ندرك الظواهر لا
الحقائق. الحجة الرابعة: إن إدراكات الحس الواحد
تختلف باختلاف الظروف من سن وصحة ومرض ونوم ويقظة وانفعال وهدوء وغير ذلك، فمثلا
الأشياء صفراء للمصاب باليرقان، و إن قيل إن مثل هذه الحالات مرضية استثنائية،
أجاب الشكاك: وكيف نعلم أن الصحة ليست ظرفا يغير الظواهر. الحجة
الخامسة: إن الأشياء تبدو لنا باختلاف على حسب المسافات والأمكنة والأوضاع،
فالسفينة البعيدة تبدو صغيرة ثابتة، فإذا ما اقتربت أو اقتربنا منها بدت كبيرة
متحركة... ويبدو العصا منكسرة في الماء مستقيمة خارجه... فكيف السبيل إلى معرفة
الأشياء بغض النظر عن المكان الذي تشغله، والأوضاع التي تتخذها، والمسافات التي
تفصلنا عنها؟ الحجة السادسَة: إن الأشياء
تبدو لنا باختلاف على حسب ما تمتزج به أو تتحد به من هواء أو حرارة أو ضوء أو برد أو حركة، فلون الوجه يختلف
في الحر وفي البرد، ويختلف الصوف في الهواء اللطيف وفي الهواء الكثيف...ونحن لا ندرك الأشياء إلا بواسطة أعضاء الحس، وامتزاجها بالأعضاء
يفسد الإدراك كما رأينا في الحجة الرابعة فكيف السبيل إلى إدراك الشيء في نفسه مع
استحالة فصله عما يحيط به. الحجة السابعة: أن
الأشياء تبدو لنا باختلاف على حسب الكمية، فملا ..زحبة الرمل تبدو خشنة بينما كومة الرمل تبدو رخوة، والنبيذ
يقوينا إذا تعاطيناه باعتدال، ويضعفنا إذا اسرفنا. الحجة الثامنة: إن كل شيء نسبي بالإضافة إلى
الأشياء المدركة، وإلى الشخص المدرك، فالشيء ليس إلى اليمين أو اليسار، إلى أعلى
أو إلى اسفل بنفسه،
بل بالنسبة إلى شيء آخر، وكذلك الكبير والصغير، والأب والإبن،
وليس شيء مدركا في نفسه. الحجة التاسعة:
إن الأشياء تبدو لنا باختلاف على حسب المألوف والنادر، فالنجم المذنب يدهشنا
لندرته، ولولا أننا نرى الشمس كل يوم لكانت تبدو مخيفة، فليست صفات الأشياء هي علة
أحكامنا عليها، بل كثرة ورودها أو ندرته. الحجة
العاشرة: اختلاف العادات والقوانين والآراء، فالمصريون يحنطون الموتى،
والرومان يحرقونهم، وبعض الشعوب يلقيهم في المستنقعات. ويجيز الفرس زواج الأبناء
من أمهاتهم، ويجيز المصريون زواج الإخوة من أخواتهم، ويحظر القانون اليوناني كل
ذلك. واختلاف الأديان، ومذاهب الفلاسفة، وقصص الشعراء، معلومة للجميع، وإذن فكل ما
نستطيع أن نقوله هو أن الناس رأوا أو يرون كذا وكذا، أي ما بدا أو يبدو لهم حقا،
لا الحق في ذاته. وهذه الحجج أنواع يمكن ردها إلى واحدة
هي حجة النسبية.
ملحق : مَا التفاحَ؟
التفاحَة، فاكهة حَمراء، خَضراء أو صفْراء،
قَابلَة للأكل، ذاتُ مَذاق حُلو (غالبًا)، وَتقرْمِش
عِند عَضهَا ! وَلكن بالنسْبة للقِط، الذي لا يرَى الألوان وَلايَأكل التفاح، فهُو لاَ يعْني لَه شَيئا، إنّه
كالحَجر ! فالإنسَان والقط يدرِكَان التفاح بِطرُق جِد مختلفة.
في كِتابه "فينومينولوجيا
الإدرَاك" بين ميرلُو-بُونتي
(1908-1961) إلى أية دَرَجة يرتبط إدرَاكنا للمُحيط بأجسَادنا مِن جِهة وبعلاقات
الرّغبة، الحُب واللامُبالاة التي ترْبطنا بالأشياء المُحيطة بنا مِن جِهة أخْرى.
نحْن نَعيش في عَالم تمْلأه الأشيَاء، وَهذه الأخِيرة تبدُو لنَا حقائق مُوضوعية،
ولكن علاقتنا بالعَالم هِي التي تحَدّد القيمَة وَالمَعنى الذِي نُضِفيه عَليها.
أترك تعليقا