قبل الحديث عن ابن خلدون وعلاقته
بفلسفة التاريخ، لابد من تحديد المقصود بفلسفة التاريخ أولا، أقرب تعريف يمكن أن
نورده لفلسفة التاريخ هو أنها النظر إلى الوقائع التاريخية بنظرة فلسفية، والسعي
إلى معرفة الروابط التي توجد بين الأحداث والوقائع المتفرقة، فهي تبحث في الوقائع
التاريخية وتسعى لاكتشاف العوامل الأساسية التي تؤثر في سير هذه الوقائع، وتعمل
على استنباط الأحكام العامة التي تتطور بموجبها الدول والحضارات، أي تهتم بتفسير
وفهم مجرى التاريخ في ضوء نظرية فلسفية معينة، وتضع لعلم التاريخ أساسا فلسفيا
بحيث لا يبقى التاريخ مجرد سرد وتفسير للوقائع فقط، وإنما التعمق في دراسة الأسباب
والقوانين الثابتة التي تتخطى الزمان والمكان. وقد ورد أول استعمال لعبارة
"فلسفة التاريخ" لدى فولتير، وذلك طبعا لا يعني أنها قد ابتدأت معه [بل
مع ابن خلدون]، وقد قصد فولتير بهذا المصطلح دراسة التاريخ من وجهة نظر الفيلسوف،
أي دراسة عقلية ناقدة ترفض الخرافات وتنقح التاريخ من الأساطير والمبالغات، وهو في
ذلك يعني كل رواية غير مقبولة لدى العقل أو محتملة الشك، فهو يرفض أن تكون دراسة
التاريخ مجرد أكوام مترامية من المعارك الحربية والمعاهدات السياسية دون معنى
مفهوم أو حكمة بادية، وقد سعى إلى تنقيح الدراسة التاريخية بواسطة ما يمكن تسمية
التاريخ النقدي وتعديل طبيعة الدراسة التاريخية من التاريخ السياسي والعسكري إلى
فلسفة الحضارة، فمهمة التاريخ النقدي تحرير الفكر الإنساني من العبودية والخرافة
والغباء من أجل نشر الحرية والتنوير والعقل، ومهمة فلسفة الحضارة أن تتسع دراسة
التاريخ لما هو أهم من أخبار المعارك وسير الملوك، بل لتتبع سير العقل البشري
ممثلا في شتى مظاهر النشاط الإنساني.
أما نقطة الإنطلاق في فلسفة التاريخ لدى ابن
خلدون ففي التمييز بين الظاهر والباطن في التاريخ، حيث يقول أن التاريخ:
" في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون
الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع
وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق"،
وهذا التعريف يضيء ملامح فلسفة التاريخ عند ابن خلدون، ففلسفة التاريخ تتجاوز
السرد والحشد لأخبار لا رابط بينها، حيث أن هدفها هو التعليل ومعرفة الأسباب، كما
يشير إلى أنها فرع من فروع الفلسفة [لأن علم التاريخ أصيل في الحكمة عريق]،
هذا وقد عمل ابن خلدون على وضع عدة قوانين نذكر منها جدلية التاريخ
وديناميكيته وقيام الدول ثم تماسكها بالعصبية، وأن الاجتماع الإنساني يتطور من
البداوة إلى الحضر في سُنة طبيعية دائمة وأن الدول كالبشر تولد وتنمو وتكبر ثم
تضمحل وتموت. وأن الحضارات تتعاقب عليها ثلاثة أطوار: بداوة ثم حضر ثم اضمحلال
اقتصادي وخلقي. وأن الأقاليم والعوامل الجغرافية تؤثر في التاريخ وأن العمران
مرتبط بالإقتصاد [ ولهذا يرى المؤرخ ساطع الحصري أن نسبة شرف إدخال عنصر
الإقتصاد في علم التاريخ إلى مونتيسيكو ليس سوى افتراء على الواقع والحقيقة] ... وبعده جاء كثيرون حاولوا وضع هذا النوع
من القوانين، منهم هيجل وماركس وآكتون وغيرهم ...لكل هذا ولغيره يقول توينبي متحدا
عن ابن خلدون: " أنه لم يستلهم أحدا من السابقين ولا يدانيه أحد من
معاصريه بل لم يثر قبس الإلهام لدى تابعيه مع أنه في مقدمته للتاريخ العالمي قد
تصور وصاغ فلسفة للتاريخ تعد بلا شك أعظم عمل من نوعه" ويقول عنه جورج
سارتون:" لم يكن فحسب أعظم مورخي العصور الوسطى شامخا كعملاق بين قبيلة من
الأقزام بل كان من أوائل فلاسفة التاريخ سابقا ميكيافيلي وبودان وفيكون وكونت
وكورنو"، ووصفه روبرت فلِنت في كتابه 'تاريخ فلسفة التاريخ' قائلا:
" أنه لا العالم الكلاسيكي ولا المسيحي الوسيط قد أنجب مثيلا له في فلسفة
التاريخ... لقد كان فريدا ووحيدا بين معاصريه في فلسفة التاريخ كما طان دانتي في
الشعر وروجر بيكون في العلم". وأيضا يقول أندريه ميكيل أنه "أول
من وضع بمثل هذه القوة وهذا الشموخ منذ ثوقوديدس، مبادئ فلسفة في التاريخ".
ومع ذلك لابد أن نشير إلى أن البعض يرفض القول أن عمل ابن خلدون يندرج ضمن
فلسفة التاريخ، ومنهم الدكتور علي عبد الواحد وافي [الذي يعده مؤسس علم
الإجتماع] الذي أنكر إدراج المقدمة ضمن فلسفة التاريخ مستندا إلى أن من بحثوا
في هذا الفرع قد تأثروا بنظريات فلسفية وآراء مسبقة وحاولوا أن يخضعوا حقائق
التاريخ لهذه النظريات بينما بحوث ابن خلدون نتاج الملاحظة واستقراء
الحوادث، ولكن واقعية ابن خلدون لا تعني خلوها من الفكر الفلسفي فمثلا
الحتمية التاريخية واضحة في آرائه ...
مراجع:
-- الكتابة التاريخية، خالد طحطح، 2012
(عن دفاتر فلسفية، العدد 24، التاريخ).
-- في فلسفة التاريخ، أحمد محمود
صبحي،1975،.
-- عالم الفكر، المجلد الخامس، العدد
الأول، فلسفة التاريخ، 1974.
-- معجم الفلاسفة، جورج طرابيشي، مادة ابن
خلدون.
أترك تعليقا