ولد أنكساغوراس في كلازومينيا، في آسيا الصغرى، حوالي 500 ق.م. وهو ينحدر من
أسرة نبيلة ويملك أموالا طائلة، لكن تخلى عن كل أملاكه وانتقل إلى أثينا سعيا وراء
العلم والفلسفة، وهو أول الفلاسفة الذين استقروا في أثينا مشيدا بذلك عهدا جديدا في
حياة هذه المدينة التي ستصير "مدرسة اليونان" كما وصفها بيريكليز حاكم أثينا في عصرها الذهبي. وقد كان هذا الأخير
صديقا لأنكساغوراس، حيث ساعده على الهرب من
أثينا حين اتهمه أهلها بالإلحاد لأنه قال أن الأجرام السماوية ليس آلهة، بل إن الشمس حجر ملتهب والقمر مجرد أرض.
انشغل انكساغوراس، كما فعل من سبقه من
الفلاسفة، بأصل العالم وتفسير الحركة. وقد سبق ورأينا أن أمبيدوكليس
آمن بأربعة عناصر من المادة الأولية ( الهواء، الماء، التراب والنار)، لكن أنكساغوراس لا يوافقه الرأي، حيث يتساءل: "كيف
يخرج الشعر من اللاشعر؟ واللحم من اللالحم
(أي من شيء غير اللحم
مثل العناصر الأربعة)؟"
فلابد أن كل هذا وغيره موجود أصلا. لذلك يرى أنكساغوراس
أن جميع الأنواع المختلفة للمادة نهائية وقصوى، بمعنى أن أشياء من قبيل الذهب،
اللحم، الخشب والنار والماء هي نفسها عناصر نهائية للمادة لا تصدر عن أي شيء آخر ولا
تتحول من مادة إلى أخرى. أما عن الحركة فهو يرى، على عكس بارمنيدس،
أن في الكون حركة وتغيرا، لكنه يتفق مع بارمنيدس
في مبدأ أساسي وهو أن الوجود لا يأتي من اللاوجود، بل
كل شيء موجود منذ الأبد، الذهب، اللحم، الهواء ... وذلك على شكل بذور. لذلك
يقول في إحدى شذراته :" يخطىء
الهلينيون في قولهم : إن الأشياء تظهر الى الوجود ثم تختفي. فلا شيء يظهر إلى الوجود أو يختفي عن
الوجود، بل هناك إنفصال أو إمتزاج
لما هو موجود. والصواب أن يقولوا عن ظهور الأشياء إلى الوجود إنها
"امتزاج"، وعن التي تختفي عن الوجود إنها "إنفصال"".
ولكن كيف كان هذا الامتزاج؟ يحذرنا أنكساجوراس
من الظن بأن البذور موجودة "جنبا إلى جنب"، بحيث أنه يمكن فصلها
بعضها عن بعض بفأس، بل هي ممتزجة ومختلطة، بل إن كل شيء موجود في كل شيء. فاللحم مثلا فيه من شيء من كل شيء، لكن فيه بذور اللحم أكثر من
غيرها، لذلك سمي لحما.
يبقى أن نتساءل عن القوة المحركة لامتزاج وانفصال البذور، فإذا
كان أمبيدوكليس يرى أن القوة المحركة هي الحب
والكراهية، وهما
خياليان وغامضان من جهة وماديان من جهة أخرى. فإن أناكساغوراس
يتصور القوة المحركة على أنها قوة غير فيزيائية وغير جسمانية كلية أسماها "النوس" أي العقل الكلي. وهذا الرأي هو
الذي جعله يتلقى المديح من سقراط،
أفلاطون ومن أرسطو. يقول عن العقل:
" جميع الأشياء الأخرى فيها جزء من كل شيء، أما العقل فهو لا نهائي، ويحكم
نفسه بنفسه، ولا يمتزج بشيء، ولكنه يوجد وحده قائما بذاته. ذلك أنه لو لم يكن
قائما بذاته، وكان ممتزحا بأي شيء آخر، لكان فيه جزء من
كل شيء. ولو أن الأشياء كانت ممتزجة بالعقل لحالت بينه وبين
حكم الأشياء، كما يحكم نفسه. وهو قائم بذاته، ذلك أن العقل الطف
الأشياء جميعا وأنقاها، عالم بكل شيء عظيم القدرة. ويحكم العقل جميع الكائنات
الحية كبيرها وصغيرها. والعقل هو الذي حرك الحركة الكلية فتحركت الأشياء الحركة
الأولى والعقل يدرك جميع الأشياء التي كانت، والتي توجد الآن والتي سوف تكون ...
العقل كله متجانس في كل أجزائه في أكبرها وأصغرها".
"كان مبدأ أنكساغوراس أنه
تعرّف في النوس، في الفكر أو العقل بصفة عامة، الماهية
البسيطة للعالم، المطلق... والنوس، من حيث هو بسيط، هو
الكلي" [هيجل].
من خصائص العقل عند أنكساغوراس أنه
غير متحرك، لأنه لو كانت فيه أية حركة فإن علينا أن نبحث عن هذه الحركة في شيء آخر
خارجه، فالمحرك الأول غير متحرك. كما يجب أن نعلم أن العقل ليس خالقا للأشياء بل
مشكلا لها فالعقل والمادة موجودان جنبا إلى جنب منذ الأزل، يقول أنكساغوراس: "إن الأشياء جميعا كانت معا
متعددة بشكل لا متناه و قليلة بشكل لا متناه، ثم جاء العقل و بث فيها النظام"
( يذكرنا هذا بنقطة التفردية singularity
في نظرية الإنفجار الكبير).
لا نعلم عن نظرية المعرفة لدى أنكساغوراس إلا أشياء
قليلة، منها نقده للحواس حيث يقول في إحدى الشذرات:
"لا نستطيع الحكم على الحقيقة بسبب ضعف الحواس... لذلك لم يكن في الإمكان
معرفة عدد الأشياء المنفصلة سواء في العقل أو في الواقع" وهنا نلمس السبب
الرئيسي في نفور اليونان بصفة عامة من فكرة اللامتناهي،
حيث أنهم أحسوا، ومعهم أنكساغوراس نفسه، بأنها
لا تسمح بالمعرفة الدقيقة، وأن موضوع المعرفة يجب أن يكون شيئا متناهيا أي محدودا.
2 التعليقات
التعليقاتمقال ممتع
ردشكرا لك
العفو أخي، تحياتي
ردأترك تعليقا