يعتَبر بارمنيدِس من أهمّ فلاسفَة اليونَان قبل سقرَاط، وهوَ من مدينَة "إيليا" على الساحل الغربي من "اليونان الكبرى" (جنوب نابولي حاليًا في إيطاليا ). من الصعب تحديد تاريخ بارمِنيدِس لتعدد الآراء لكن من المؤكد أنه ولد حَوالي منتصَف القرن السّادس ق.م.
لا نعرف الكثير عن حياة بارمنيدس، فكل ما نعرفه أنه كان من عائلة راقية، وكان في مطلع شبابه فيتاغُوريا لكنه تمرّد على الفلْسَفة الفيتَاغورية وصَاغ فلسفَته الخاصّة، وقد عرض هاته الفلسفَة في قصيدة من ثلاثة أجزاء : مقدمَة، طريقُ الحق وطريقُ الظّن. وقد بقي القسم الأكبر من المقدّمة ومن طريق الحق.
يصف بارمنيدس في مقدمة قصيدة (نفسه) وهو يركب عربة تجرها الخيل من الظّلام إلى النور، وعند بلوغه الباب قادَته العذارى إلى الآلهة, يقول :"واستقبلتني الآلهة بترحاب و أخذت يدي اليمنى بين راحتيها، وخاطبتني بهذه الألفاظ: ' لقد أرسلتَ في هذه الطّريق بأمر العدَالة و إنه لطريقُ بعيدٌ عن أقدَام البشر. و يجبُ أن تتعلّم كلّ شيء، عن قلب الحقيقَة الجيدة الإستدارة الذي يتزعزع، و عن ظنون البشَر، و في هذه لا تضعنّ أيه ثقة. ورغم هذا فإنه يجب أن تعرفها هي أيضًا، و أن تعرف كيفَ توجد المظاهر بحسب هذه الظنون' ".
من خلال هذه السطور نتعرف على فلسفة بارمنيدس: رفض طريق الظن، أي المعرفة الظنية غير اليقينية، والبحث في طريق اليقين، طريق الحقيقَة. وطريق الظن عنده هو الطريق الذي تؤدّي إليه العادة، أي الذي تؤدي إليه التجارب المتكررة كلّ يوم، والتي تعتمد على الحواس وعلى اللغة غير الدقيقة. أما طريق الحق فهو يعتمد على البرهان، أي على العقل.
و قبل عرض طريق الحق، يبدأ بارمنيدِس بنقد طريق الحق، فما هو مبدَأ طريق الظّن؟ إنه المبدأ القائل بأن : الوجود غير موجود واللاوجود موجود ! وهكذا فبارمنيدس ينتقد هيراقليطس في قوله أن الأضداد واحدة، فمضمُون المبدأ السابق هو القول أن الوجود موجود وغير موجود معًا (في نظر طريق الظن).
وفي نقد لطريق الظن يقول : " طريق ضلّ فيه الغَوغاء الجَاهلون ذوو الأوجُه المزدوجة، والارتباك الموجُود في صدورهم يضلُّ عقولَهم، حتى لقد يعيشون كالصم و العمي و البلهَاء الذين لا يفكّرون و الذين عندهم أن الوجود و اللاوُجود هما و ليسا هما نفس الشيء. و ظنّهم أنه يوجد في كل الأشيَاء طريقٌ يتعارضُ مع نفسه"
وعندما يعرض بارمنيدس لطريق الحق يأتي بمبدأ بسيط : الوجود موجود ! ويبدأ في عرض أوصافِ الوجود :
أ- هو لا يكون و لا يفسد.
- ذلك أنه كامل ثابت و لا يمكن أن يكون أكمل مما هو عليه : " فأنى له أن ينشأ و هو الكل الكامل، و أنى له أن يفسُد و هو الثابت؟".
- و بما أنه واحد متصل فلا تكوّن يدخل عليه و لا فناء.
- و على فرض أنه ينشأ و ينمو فمن أين ستأتي هذه النشأة ؟ ليس من الوجود لأننا نتحدث هنا عنه، و لا من اللاوجود لأنه غير موجود، فكيف يأتي الوجود من اللاوجود؟
ويختم بارمنيدِس برهنته قائلا :
" فمن الضروري إذن إما أن يوجد الوجود وجودُا مطلقا، و إمّا ألا يوجد على الإطلاق"
ب- الوجود لاَ ينقسِم، لأن الوجود كل متجانس، ولا يمكن أن يدخل عليه شيء إضافي يغير من تماسكه، ولا أن ينقص منه شيء، لأنه مملوء كله بالوجود، فلا يمكن أن ينقص لأنه لا يمكن للوجود أن يصير لاوجودًا.
ت- الوجود كامل مثل " كتلة الكرة المستديرة المتساوية الأبعاد من المركز ... وليس الوجود أكثر أو أقل في مكان دون آخر، بل هو كل لا إنفصال فيه".
ومن أهم نتاج هذا الموقِف الفلسفِي إنكار التعدد والحركة والزمن والخلاء، أما عالم الزيف والمظهر، عالم الصيرورة فهوَ ناتج عن خداع الحواس، وأن الوجود الحق لا يعرف إلا بالعقل. وهكذا نرى أن الكون الخِصب، المتغيّر والمتعدد الذي رأيناه عند هيراقليطس، يختزل عند بارمنيدس في كلمة واحدة هي "الوجود"، ويصبح مفهومًا مجردًا مغرقًا في التجريد، لذلك يقول نيتشه أن بارمنيدس صاغ نظريته " وقد سيطرت عليه قشعريرة التجريد الثلجية" حتى أنه تحول تحت تأثيرها في نظر نيتشه إلى " طبيعَة قد حجّرها تحجيرًا كاملاً التشدد المنطقي، و حوّلها أو كاد إلى آلة تفكير".
وتعبير 'التشدد المنطقي' لا يغالي في وصف الطبيعة المنطقية للمنهج البارمينيدي، فبارمنيدس هو اول من استخدم مبدأ عدم التناقض استخداما دقيقا ووصل به إلى أقصى نتائجه، فهو يرى أن هناك نقيضين : الوجود واللاوجود، ولا يمكن أن يقومَا معًا ولا أن يرفعَا معًا، بل لابد من اختيار الواحد أو الآخر.
وقد كانت فلسفة بارمنيدس حدثًا مهمًا في تاريخ الفكر اليوناني، حيث أنها أكدَت أنه يمكن الحديث عن الوُجود بل ومعرفته معرفة يقينية بدون الحاجة إلى الحواس وإلى التجربة بصفة عامة، وأن العقل يكفي وحده، وبهذا يكون بارمنيدس هو الذي فتح الطريق أمام فلسفة أفلاطون وأرسطو، ففلسفته فلسفة قوية عميقة جعلت أفلاطون يلقبه " بأبيه الروحي".
1 التعليقات:
التعليقاتمصدر الكاتب
ردأترك تعليقا