من الخصائص التي ميزت
الفلاسفة الفرنسيين انخراطهم في قضايا المجتمع والتحامهم مع أحداث مجتمعهم وشؤون
العالم ككل، حيث كانوا يشاركون بفعالية في الحياة الفكرية والسياسية والإجتماعية، كما كانوا ينشغلون بأحداث الحياة اليومية مما
ساعد على انتشار أفكارهم وذيوعها بين عامة المثقفين. وارتباطا مع هذا الموضوع فقد
لاحظ الأستاذ أنتوني مانسر Anthony Manser استاذ الفلسفة بجامعة ساوثهامبتون
في مقال قصير نشرته له مجلة new society بعنوان Existentialism in retrospect ، أن الفلاسفة الإنجليز كانوا يميلون في السنوات الأخيرة إلى
اعتبار أنفسهم مفكرين "محترفين"، ولذا فقد وجهوا معظم اهتمامهم
لمناقشة مشكلاتهم الفلسفية الخاصة والصعبة بدلا من الإنشغال
بالتفكير في مشاكل الناس العاديين، اعتقادا منهم أن "الإرتفاع"
بالتفكير الفلسفي عن طريق إبراز المشكلات الفلسفية في ألفاظ وعبارات
"فنية" ومصطلحات معقدة وغير مفهومة لغير المتخصصين (وهذا ما ينخرط فيه
البعض معتقدا أن ذلك يضفي على كلامه عمقا أكبر) من شأنه أن يساعد الفلسفة على الإستمرار في الوجود والصمود في عصر العلم، وذلك بعكس الحال
في فرنسا. وانسجاما مع هذا التقليد الفرنسي فقد كان سارتر منشغلا بأحداث
عصره ومشاركا فيها ومبديا رأيه فيها من ناحية أخرى، وقد
كان من أفضل الأمثلة على مشاركة الفيلسوف في الأحداث العادية.
لقد
كانت الحرب العالمية الثانية بمثابة نقطة تحول في حياة سارتر واتجاهاته
واهتماماته. فقبل الحرب كان سارتر، على ما يقول ديفيد كوت David Caute " يزدري
السياسة" لدرجة أنه في عام 1936 لم يهتم بالإدلاء بصوته في الإنتخابات على الرغم من أنه كان يأمل في فوز الجبهة الشعبية،
أما الحرب ... فهذه مسألة أخرى مختلفة تماما، إنها، كما يقول كوت دائمًا،
دليل وبرهان على أن رفض السياسة إنما هو مسألة مؤقتة ولا يمكن أن تستمر طويلا، إلا
بقدر ما يستطيع الإنسان ان يمتنع عن التنفس، إنها امتداد قوي للسياسة بحيث لا يمكن
للإنسان أن يهرب منها ... وبعد سقوط فرنسا عام 1940 أخذ الألمان سارتر أسيرا
في أحد معسكراتهم على الرغم من أنه لم يشارك في الحرب. وحينئذ نبعت لديه فكرة أن
الشرعية الحقيقية أو الوجود الشرعي الحقيقي أو الأصالة authenticité تتطلب الإلتزام
الشخصي الواضح والصريح. وفي معسكر الإعتقال كان سارتر
يمارس نفس التعاليم التي شرع يبشر بها بعد خروجه، على ما يقول ماريوس بيران في
كتاب عن سارتر في المعتقل، لقد كان سارتر يعلم زملاءه "طريق الحرية".
ولقد ظل سارتر يردد قوله: إن كل ما حاولت أن أكتبه أو أفعله خلال حياتي إنما
كان هو تأكيد أهمية الحرية. ولسارتر في ذلك عبارة مشهورة تقول: "ليس
الإنسان سوى ما يصنعه بنفسه" .
لقد كان سارتر يرفض أن يخضع
الإنسان لأي قوة أخرى أكبر من حريته هو ذاته، وهو أمر كان يثير عليه حفيظة
الشيوعيين الذين أنتسب إليهم لبعض الوقت، ولو أنه لم يكن أبدًا عضوا في الحزب
الشيوعي. وتذكر دوبوفوار أنه في حوالي فبراير عام 1940
لاحظت تغيرا هائلا في حياة سارتر وحياها التالي، لأن سارتر أصبح يشعر أنه
لا يمكن له أن يعيش بمعزل عن الحياة السياسة وعن الالتزام السياسي. ففكرة الشرعية
والأصالة التي كان قد توصل إليها تفرض عليه أن يمارس دروسه وعمله ومكانته في
العالم، وأن ذلك لن يتيسر له إلا عن طريق "الإلتزام"
في العمل. وقد وافقته دوبوفوار - كما تقول في مذكراتها
– على ذلك، ومن هنا وجدا نفسيهما "ملتزمين" في الإنشطة
السياسية، وهذا هو ما سيؤدي به فيمَا بعد إلى النظر للأدب على أنه التزام أيضا،
فالكلام والكتابة صورتان من الفعل. فبعد أن أطلق سراحه عام 1941 شارك مع الفيلسوف
الفرنسي موريس ميرلوبونتي في تكوين جماعة
"للمقاومة الفكرية" ، وكان من أهم نتائجها تأليفه لمسرحيته الشهيرة
"الذباب Les Mouche " التي لم ينتبه "الرقيب" في اول الأمر إلى ما
تحمله من معاني الحث على المقاومة، لأن الرقيب في العادة "شخص غبي
وأبله" كما يقول ناتان سكوت، وقد منعت فيما بعد
لكن بعد أن أدت الدور المنوط بها، ولكن سارتر لم يشترك في المقاومة الفعلية
ولم يقم بأي عمل من أعمال العنف. ولكن هذه "المقاومة الفكرية" كانت
بداية لاشتراكه في مقاومة كل أنواع الإضطهاد، نذكر أنه
احتج على تعذيب الشرطة الفرنسية للثوار الجزائريين ، والوقوف في صف حركات التحرير،
وربما كان الإستثناء الوحيد من ذلك هو موقفه من قضية
اللاجئين الفلسطينيين.
سارتر وسيمون يوزعان منشورات |
لقد
شغل سارتر نفسه طيلة حياته بمشكلات عصره وأدلى برأيه فيهَا.
ويَردّ رونالد آرنسون في كتابه Jean Paul Sarte : Philosophy
in the World ذلك إلى "مزاج سارتر المتطرف" الذي كان يدفعه هو وسيمون
دوبوفوار إلى المشاركة في كل حركات الإضطراب
بل وإلى التحريض على التمرد والثورة، ما أمكن ذلك، حيث كان سارتر شخصية محورية في
احتجاجات أيار 1968 التي اجتاحت الجامعات الفرنسية وبعض الجامعات الأوروبية، لقد
كانا يبحثان عن "الإستشهاد"، ولكن يبدو - كما
يقول آرنسون في سخرية – أن البوليس كان مصمما على أن
يحرمهما من شرف الإستشهاد فتركهما حرين طليقين.
وبصرف
النظر عما يقوله أرنسون عن تطرف مزاج سارتر
فالذي لا شك فيه هو أن الظروف التي أحاطت بفرنسا والتي عاشها سارتر لم تكن تسمح له
بالإنزواء والإنطواء والخلود
إلى حياة الهدوء والتفكير والتأمل التي يتصور الناس أنها لازمة لحياة الفلاسفة،
وإنما ألقت به هذه الظروف في أتون المعركة وأضطرته
اضطرارا إلى أن يشارك الناس في آلامهم وآمالهم، وإن كان هذا قد أدى به في آخر
الأمر إلى أن يظهر بمظهر الرجل الباحث عن الشهرة، والذي ينادي بالتحرر من كل
القيود والقيم والأوضاع المتوارثة والتي يفرضها المجتمع على اعضائه. وهذه الشهرة
التي نالها سارتر في هذا المجال هي التي أعمت نقاده عن بعض الحقائق الكامنة
في فلسفته، وهي فلسفة كانت تأبى عليه أن يتقدم بأية اقتراحات لغيره من الناس نحو
السلوك الذي ينبغي عليهم أن يتبعوه والوسيلة التي يمكن لهم بها أن يوجهوا حياتهم.
فلقد كان على العكس من ذلك يعتقد أن مسؤولية الفرد، من حيث هو فرد، تنحصر في أن
يختار وأن يقرر بنفسه ما يتعلق بسلوكه وحياته. وسلوك سارتر (المتحرر) والسمعة التي
لحقت به وبخاصة فيما يتعلق بحياته الجنسية أخفت دور سارتر من حيث هو فيلسوف
أخلاقي، كما أخفت فلسفته التي كانت تدور حول إدراكه لوحدة الإنسان وانعزاله
ومسؤوليته في هذا العالم، وإن الإنسان (خيّر) بطبيعته، وهو رأي يشارك فيه الكثير
من الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين وبخاصة جان جاك روسو.
وفي سنة 1964، مُنح جائزة نوبل للآداب، لكنه رفض استلامها، زاعمًا أن هدفه من الكتابة ليس التشريفات الرسمية والجوائز، بل ينبع من التزامه الأدبي بحمل آلام العصر على كتفيه، وتحمَّل مأساة الجيل بفكره اللاذع وحسِّه الأخلاقي الشجاع.
وفي سنة 1964، مُنح جائزة نوبل للآداب، لكنه رفض استلامها، زاعمًا أن هدفه من الكتابة ليس التشريفات الرسمية والجوائز، بل ينبع من التزامه الأدبي بحمل آلام العصر على كتفيه، وتحمَّل مأساة الجيل بفكره اللاذع وحسِّه الأخلاقي الشجاع.
أترك تعليقا