المُلحِد ذَلك المَوجُود القَلِق


الإلحاد كمرادف للأمل الإنساني :

الإنسان ليس سوَى ما يصنعه هو بنفسه
جا بّول سَارتر، الوجودية مذهب إنساني


الملحد ذلك الموجود القلق


يتم النظر الى الإلحاد في اكثر مدلولاته وضوحا على انه علاقة إنفصال وانعتاق من قبل الوعي البشري من قيود المقدس بكل أركانه من مصدر مفارق مطلق ( إله ) وإرادة مطلقة مسبقة ( قدر ) وتعاليم للكشف أو الهداية ( أديان ) وغيرها من المقولات التي تقوم بسلب الإنسان القيمة الأكثر تحررا او تعبيرا عن الحرية بمعنى ادق وهي (حق تقرير المصير)
مصير الإنسان دوما ما يكون في ضوء وجود الرب حكما مسبقا .. قدرا .. مسرحية عرضت من قبل على جمهور لا وجود له وكتبت أدق تفاصيل فصولها بلوح محفوظ ..
وبالتبادل ، فان وجود الإله هو في حقيقته استلاب لحق الانسان الأصيل في تقرير مصيره، في ان يصنع نفسه ... ان يغير حقا بالعالم ... لذلك فهو في اعمق توصيفاته .. مضاد للأمل.

إذن، فبصورة او بأخرى يمكن لنا إعتبار الإلحاد في جوهره هو ترجمة لنزوح الإنسان (بمفهومه الذاتي والجمعي المسؤول ) نحو الأمل .. والأمل هنا يكون نحو التحرر .
تلك الحرية ... وذلك الإنعتاق من أسر المقدس ... هو ذاته وعي الإنسان بذاته وبقدرة تلك الذات في حق تقرير المصير .. ليس فقط على المنحى الفردي .. بل ونحو العالم ايضا .. نحو التاريخ .. ومن ثم نحو جميع افراد النوع البشري .. وهنا يبرز القلق .


بمفهومه الوجودي وكما تحدث عنه سارتر .. فان القلق هو منتوج لوعي الإرادة الإنسانية بحريتها إزاء الإختيار .. ولكنه الوعي المسئول ... اي الذي يتعاطى مع مفردات إختياراته ضمن مسئولية الإختيار للجميع ايضا.

ورغم عمق وأصالة المفهوم السارتري وما لحقه من شروحات وتنظيرات بالغة الأهمية والنفاذ لغور الوعي البشري .. فاجد بنفسي القدرة على المجازفة الى تناول مفهوم القلق في مستوى آخر من مستويات تحققه .. وهو المستوى الفردي الخالص.

وجود محترق يتأرجح ما بين الخوف والقلق !

يتشابه كثيرا الخوف مع القلق حتى انهما يكادا ان يكونا مترادفين لشعور واحد عند البعض لكنهما في الواقع مسارين منفصلين تماما ( وجوديا ) سواء من زاوية المنبع او المصب وكذلك انماط التعبير.

للخوف مصدرا محددا ... معروفا .. يحمل بين طياته إحتمالات مواجهته وحسابات نجاح تلك المحاولات او فشلها وهو في كل الأحوال يكون ( موضوعا ) مما يحيل دوما الى إمكانية إحتوائه من قبل الوعي بل والتغلب عليه وايضا ربما بمشاركة الآخر او مساعدته او حتى تضامنه الشعوري.

وعلى النقيض تماما .. فان القلق ليس له موضوعا .. بما يحيل كل محاولات الكفاح والمشاركة الى عبث مرير بل وجحيم لا يطاق .. بعبارة اخرى لا تخلو من التعقيد .. فان موضوع القلق هو سلب لجميع الموضوعات الأخرى ولذلك يأتي دوما التعبير عنه في صورة عجزا عن التعاطي او التوجيه او حتى الإحتواء، هذا الموضوع ( اللاموضوع ) الذي يتمحور حوله القلق .. هو العدم.



بالقرب قليلا من العدم.


في اعمق نقطة من اللاشعور .. وفي اكثر صور الخوف توحشا .. يقبع الشعور الإنساني بعدم القدرة على الحفاظ على الوجود كمصدر بامتياز للقلق، وهذا الوعي المؤرق بالعدم كما لو كان سطح ملتهب يحمله عصب عار .. ولذلك وللمفارقة .. يحاول دوما القلق ان يتحول الى خوف .. فهذا الأخير له موضوع يمكن مواجهته في كل الأحوال .. بل والتغلب عليه بالكفاح والشجاعة من اجل الوجود على حد تعبير تيليتش، انه الغثيان العظيم كما وصفه نيتشه على لسان زرادشت وهو حمى هاملت .. اكون او لا اكون !
والوجود بوصفه حالة .. مبتدى .. وصيرورة .. يحمل ايضا بين طياته العدم كما تحمل الموجودات بذور فنائها وفقط الإنسان بوعيه المؤرق هو من يدرك تلك الحقيقة ويبدو الأمر كما لو كان هذا العدم الذي يحدق بداخله في توحش فاغرا فاه فقط من اجله هو !


القلق الوجودي كمرادف للوحدة الإنسانية .


ان تكون تحت وطأة الزحام لا يعني هذا انك لست وحيدا، وان تكون راهبا يضاجع وحدته لسنين طويلة لا يعني هذا حتما انك وحيدا، الوحدة هنا تتجاوز مفهومها السطحى المبتسر في التعلق بالآخر وتتجاهل حقائق تصف الإنسان بالحيوان الاجتماعي لتحلق نحو الإغتراب والوحدة القاسية التي تكون اشبه بسجين بائس قذف به قسرا بغرفة تلف حوائطها من كل جانب المرايا ! ان تكون في مواجهة ذاتك .. وذاتك تكون في مواجهة العدم ! عندما تخلو المسافات إلا من ايد تلوح بالفراق، وتكون فضيلة الأعين الوحيدة هي البكاء !
لا يعني الوجود ومن ثم التشبث به الشيء الكثير بالنسبة للوعي المطمور تحت ركام الظلال والخيالات الخادعة لذلك كثيرا ما يكون التخلي عنه سهلا بل وكمتعة مجانية اخيرة !
فقط هو وحده .. ذلك الوعي الحاد الى درجة الهوس .. وذلك العصب العار في مواجهة وهم المطلق هو من يعي قيمة الوجود .. وهو من يعاين جحائم القلق ..
وهو ايضا من يدرك حتمية فنائه وابتلاع العدم لآخر لحظاته الحائرة !

الكاتِب : أحمد الخَالد

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

أترك تعليقا