قضى إمانويل كانط (1724 – 1804) حياته بأسرها في
المدينة الريفية كونجسبورج في بروسيا الشرقية، أو بالقرب منها، وكان يسكنها آنذاك
حوالي خمسين ألفا. وعرف أن والده كان صانعا لسروج الخيل في ظروف متواضعة،
وعملت أخواته قبل الزواج في الأعمال المنزلية، أما أخوه الأكبر فقد التحق بالجامعة
وأصبح قسيسا من أتباع لوثر. وماتت والدته عندما كان في سن الثانية عشرة،
ومات والده عندما كان في سن الحادية والعشرين. وكان أبوه من أنصار طائفة
"التقويين" pietists المتشددين، ويحتمل أن يكونا قد غرسا فيه رؤية
دينية ورعة وجادة، لكنها ضيقة.
كان كانط تلميذا بارعا متألقا في الجامعة، وبعد
أن تخرج في الجامعة أعال نفسه لبضع سنوات بأن عمل مربيا خصوصيا في أسر الأعيان
التي كانت تعيش في منطقة مجاورة للمدينة. ثم عاد إلى الجامعة عام 1755، وعمل مدرسا
خاصا بها. ولم يرق إلى درجة الأستاذية إلا في عام 1770، ويبدو أنه أثناء هذه
السنوات الخمس عشرة حمل عبئا تدريسيا ثقيلا، فكان يقوم بتدريس ست وعشرين محاضرة أو
أكثر في كل أسبوع، لم يُدَرس فيها الفروع المختلفة للفلسفة فحسب، بل كان يدرس فيها
ايضا الرياضيات، والفيزياء، والأنتروبولوجيا، والتربية، وموادًا أخرى. وقد يكون
ذلك من أسباب تأخر تطوره كمفكر أصيل، على الرغم من أنه وجد وقتا لأن ينشر مقالات
عديدة تشرف أي مدرس جامعي عادي. وبعد أن أصبح أستاذا في عام 1770، استطاع أن يكرس
وقتا أكثر لعمل مبدع، على الرغم من أنه لا يزال يعطي ساعات أكثر للتعليم. وفي
النهاية، في عام 1781، عندما كان في سن السابعة والخمسين، استطاع أن ينشر " نقد
العقل الخالص"، كتابه الأول ذا الأهمية العالمية.
ويقع تطور كانط الفكر في ثلاث مراحل. كان في
المرحلة الأولى من هذه المراحل، مثل معظم الفلاسفة الألمان في عصره، فيلسوفا
عقليا، تحت تأثير "ليبنتز" و"فولف" إلى حد
ما، واعتقد أنه من الممكن أن نص إلى حقائق بعيدة عن طريق التفكير العقلي المستقل
عن البراهين التجريبية. ومع ذلك، تظهر مقالاته - حتى في تلك السنوات – علامات
الأصالة وعدم الرضا عن المذهب العقلي.
وتبدأ مرحلته الثانية تقريبا في عام 1765، التي تأثر
فيها إلى حد ما بالفلاسفة التجريبيين البريطانيين. فقد أيقظته
"مقالات" هيوم و"أبحاثه" من سباته الدوغماطيقي.
وقادته إلى أن يستنتج أن كل المعرفة تبدأ بالتجربة، وأن الحقيقة القصوى الخارجية
للأشياء في ذاتها التي توجد وراء إحساساتنا لا يمكن معرفتها عن طريق العقل. ومن
المحتمل أن يكون، من ناحية أخرى، قد قرأ "المقالات الجديدة"
لليبنتز بعد نشرها في عام 1765، ومن الممكن أن يكون ذلك قد عزز لديه الاعتقاد بأنه
على الرغم من عدم وجود أفكار فطرية، إن شئنا أ، نتحدث بصورة حرفية، فإن للذهن
قدرات أصلية تحدد شكل تجاربه. وأصبح، أثناء تلك المرحلة، مقتنعا بأن فكر هيوم،
لو كورناه إلى نتائجه المنطقية، لوجنا أنه يتضمن بالفعل أنه ليست كل المبادئ في
الفيزياء فحسب، بل حتى تلك المبادئ في الرياضيات أيضا، هي تعميمات محتملة تقوم على
الملاحظات. ونحن نعتقد أنها ضرورية بسبب العادة وتداعي الأفكار. ولا يمكن لكانط
أن يقبل نتائج متطرفة كهذه، فمبادئ هندسة أقليدس، وفيزياء نيوتن،
التي كان كانط يدرسها غالبا، بدت له معرفة مبرهن عليها بصورة مطلقة وليست
مجرد تعميمات محتملة. ولذلك أصبحت مشكلته هي: كيف يمكن التوفيق بين اليقين
المطلق للرياضيات والفيزياء والحقيقة التي تقول بأن كل معرفتنا تبدأ من التجربة؟
ويبدو أن كانط عرف - أثناء مرحلته الثانية، في
مجال الأخلاق – كثير من فكر فلاسفة الأخلاق البريطانيين، وبخاصة شافتسيري،
وهاتشيسون، وهيوم، كما ساتطاع أن يصل إلى معرفة فكرهم باللغة الألمانية.
وعندما انجذب في البداية إلى المذهب التجريبي الأخلاقي، لم يستطع أن يكتشف
فيه مبادئ يمكن الاعتماد عليها بصورة مطلقة مثل مبادئ الرياضيات، ووجد نفسه عاجزا
عن أن يقبل تلك المبادئ الذاتية والتي لا يمكن الوثوق بها بوصفها أساسا للأخلاق،
مثل الحاسة الخلقية، والتعاطف، واللذة، والمنفعة. وعندما سلم بقدر محدود جدا من
الحقيقة لمنازعات فلاسفة الأخلاق البريطانيين، انتهى إلى أن المبادئ الأساسية
للأخلاق تقومن بحق، في العقل، ظل بعد ذلك فيلسوفا عقليا صارما في الأخلاق. وأصبح كانط،
أثناء تلك المرحلة، أو بعد ذلك، قارئا متحمسا لروسو، الذي يدين لتأثيره
تعاطفه مع عامة الناس، واحترامه لحق كل إنسان في أن يعامل بوصفه غاية في ذاته،
وتفضيله للجمهورية الديموقراطية على نظام الحكومة الملكية.
ويعتقد أن مرحلته الثالثة أو الأخيرة التي تسمى في
الغالب، "المرحلة النقدية"، التي تكون وحدها ذات أهمية عالمية،
لم تبدأ إلا بعد عام 1770 بفترة طويلة، العام الذي ألقى فيه "بحثه الإفتتاحي"
في بداية واجباته كأستاذ، وفي عام 1781 تطور في ذهنه، بالتدريج، موقفه النهائي،
وهو التأليف بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي، الذي أطلق عليه اسم "الفلسفة
النقدية". ويبين كتاب "نقد العقل الخالص" (1781) كيف
تكون المعرفة الفعلية ممكنة، في رأي كانط، في الرياضيات، والفيزياء
والميتافيزيقا. ويبين كتاب "نقد العقل العملي"(1788) بصورة عقلية
ما ينبغي علينا أن نفعله في مجال الأخلاق، وما قد نأمله في الدين بوصفه مسألة من
مسائل الإيمان. أما كتاب "نقد ملكة الحكم" (1790) فيتضمن آراء
كانط في الإستيطيقا والبيولوجيا، وبحثا في نظائر الإيمان بعالم روحي تقدمه
الطبيعة، والفن، والحياة العضوية. وهذه الكتب الثلاثة التي تحمل عنوان
"نقد" هي أكثر كتب كانط أهمية. ويلقى كتاب " مقدمة لكل
ميتافيزيقا يمكن أن تصير علما" (1783)، في بعض النواحي، ضوءا على الأفكار
الأساسية لكتاب "نقد العقل الخالص"، في حين أن كتاب "المبادئ
الأساسية لميتافيزيقا الأخلاق " (1785) هو مدخل جيد
لفلسفته الأخلاقية. وغير تلك الكتب، يعد المقال القصير والمضيء عن "السلام
الدائم" (1795) العمل الذي يهم بصورة أكثر احتمالا القارئ العام.
ويمكن أن نلخص الوقائع الخاصة بحياة كانط التي
تخلو من الأحداث المهمة بصورة نسبية وتلقي ضوءا على روح فلسفته في الآتي:
1-
إعطاء التدريب المبكر الذي تلقاه في المنزل
اهتماما مستمرا بالدين. على الرغم من أنه كره في السنوات الأخيرة الذهاب إلى
الكنيسة، وأصبح غير مكترث بمعتقدات لاههوتية كثيرة، فإنه استمر في الإهتمام
بالمشكلات الأساسية للدين التي يمكن للفيلسوف أن يلقي عليها ضوءً وهي المشكلات
التي تخص الله، والحرية، والخلود.
2- ثلاثة عوامل مرتبطة أعطته إحساسا شديدا
بالواجب، وجعلته يشعر بأن الإلزام الخلقي ثابت ومطلق. وأول هذه العوامل، تربيته
الصارمة في المنزل عندما كان صغيرا. وثانيهما تركيبه الجسماني الضعيف، الذي أدى به
إلى مراعاة نظام صارم للتغذية، وممارسة الرياضة، والتنزه، ونتيجة لذلك تمتع بصحة
جيدة بصورة معقولة، حتى أنه استطاع أن يواصل الكتابة حتى السنوات الأخيرة من حياته
الطويلة، غير أنها تضمنت ضبطا صارما للنفس. أما العامل الثالث فهو مناخ النظام
العسكري الذي تدرب فيه الموظفون المدنيون (وكان أستاذ الجامعة في واقع الأمر،
موظفا مدنيا) في بروسيا في عهد فردريك الأكبر وأتباعه.
3- حبه الكبير للدقة الصورية في كل شؤون الحياة،
وإعجاب كانط بالتفكير الدقيق في الرياضيات والفزياء، واعتقاده أن المبادئ
الكلية والضرورية واليقينية بصورة مطلقة هي وحدها التي تستحق أن ننظر إليها على
أنها المعرفة العلمية. وهو لم يقدر، على الإطلاق، العلوم الإستقرائية. ومع ذل، فقد
كان أمينًا للغاية في قدرته على إنكار أن هجمات لوك وهيوم المدمرة جعلت عقلانية
القرن السابع عشر والثامن عشر لا يمكن الدفاع عنها. وكان لابد له من تشييد أسس
عقلانية جديدة كان يأمل أنه لا يمكن مهاجمتها.
وكان كانط محبوبا بوجه عام كمدرس، وجامعي،
ومواطن. وقد كان له أصدقاء كثيرون من سان ونجسبرغ من مكانات مختلفة في المجتمع.
وان اجتماعيا ولين الجانب في شباب، وبالتالي كان مدرسا يثير طلابه ويصر على أن لا
يأخذوا أي مذهب من مذاهب الفلسفة بوصفه مسلما به، لكن يجب عليهم أن يفكروا بأنفسهم
– وكان ذلك موقفا واسع الأفق لم يكن مألوفا في بروسيا في ذلك الوقت – لكنه كان أقل
تسامحًا بعد أن تطورت فلسفته، وقدمها للعالم، وأصبح ذائع الصيت ومسناً. وقد توقع
أن يقتنع الجميع بصدق فلسفته الخاصة، ومال إلى النظر إلى أولئك الذين فشلوا في أن
يفعلوا ذلك على أنهم عنيدون وأغبياء. ومع ذلك، فقد ظل إنسانا مهذبا، ودودًا، دمث
الأخلاق، يدعو طلابه وأصدقاء آخرين لتناول العشاء، ويستمتع بقضاء ساعتين أو ثلاث
ساعات بعد ذلك في حديث عام، وكان يعرف كيف يجعله مسليا. واستمر في أن يكون شخصا
محترما من حيث إنه باحث جاد، وأمين، ومخلص، ذو قوة بارزة وحكمة عظيمة. وكان الناس
في كونجسبرج فخورين به بوصفه أعظم فلاسفة العصر.
وعلى حين أن كتاب كانط "نقد العقل الخالص" كثيرا
ما ينظر إليه على أنه أكثر الأبحاث التي كتبت في العصور الحديثة عمقا وبراعة في
موضوعات فلسفية، فقد كان هناك اتفاق عام على أنه واحد من أكثر الكتب غموضا وصعوبة
في الفلسفة، وليس له جدارة أدبية على الإطلاق. وقد كانت كتابات كانط
المبكرة واضحة بقدر معقول، وتحتوي على قليل من العبارات البلاغية. فلماذا كتب كانط
هذا الكتاب "نقد العقل الخالص" بصورة سيئة، ولماذا لم تكن
كتاباته المتأخرة أفضل كثيرا؟ وربما كان التفسير الأساسي هو أنه شعر في عام 1780
أنه يقترب من الشيخوخة، بينما كان لديه في نفس الوقت الكثير مما يريد تقديمه
للعالم. فكان لابد أن يقدمه مكتوبا كله ومنشورا في أسرع وقت ممكن. ولذلك وضع
باستعجال الملاحظات الكثيرة التي قام بتجميعها منذ عام 1770، دون أن يقوم
بمراجعتها بدقة لكي يجعل اللغة والفكر متسقين. لقد كانت هناك قلة من الفلاسفة
الذين كتبوا بالألمانية، وفي حالات كثيرة لم يكن هناك سابقون يرشدونه في اختيار
الكلمات واستعمالها. وعلاوة على ذلك، فقد قدم كانط فلسفة جديدة، وكان مضطرا
إلى استعمال كلمات بمعاني جديدة، وكان مجبرا في بعض الأحيان على أن يستخدم الكلمة
نفسها لتعبر عن معاني مختلفة لا يستطيع القارئ أن يميزها إلا من السياق. ومع ذلك
فقد كرس الشراح أنفسهم لتفسير كتب كانط النقدية، منذ عصره. وتم التوصل الآن
إلى اتفاق عام فيما يتعلق بالخطوط الأساسية لفلسفته، والعناصر التي تهم المبتدئ
بصورة كبيرة. فاستقر الرأي على أن فكره منذ عام 1781 فصاعدا قد تغير قليلا فيما
يتعلق بالمسائل الجوهرية. ولا يزال هناك خلاف حول التأكيد النسبي الذي كان يريد
وضعه على جوانب مختلفة من مذهبه، وعلى تفصيلات أخرى هي بالنسبة للمبتدئ ذات نتيجة
أقل شأنا، بغض النظر عن أهميتها بالنسبة للمتخصصين. (وهناك، بالتأكيد، اختلافات واسعة في الرأي
بين الفلاسفة المثاليين، والفلاسفة الواقعيين، وفلاسفة آخرين من عصرنا بالنسبة إلى
أي مدى كان كانط محقا أو مخطئا في مواقفه المتعددة، غير أن هذه مسألة أخرى). إن أي قارئ جاد يريد أن يدرس كانط بتأن
وبمساعدة الشراح، سوف لا يجد صعوبة في فهم الفحوى العام لفلسفته. وسوف بنال الجزاء
الذي يناله من يجلس في بيته مع واحد من عقول العصور البارعة.
أترك تعليقا