نشأت الفلسفة البراغماتية وأخذت صيغتها الواضحة
والمؤثرة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالرغم من أن بعض الكتابات الأساسية
للبراجماتيين قد ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، إلا أن البراجماتية تعد من
الإتجاهات الفلسفية البارزة في القرن العشرين والمميزة له.
ففي عام 1870 وفي أحد نوادي مدينة كيمبردج بولاية
ماسشوستس كان يلتقي مجموعة من الشبان ممن يهتمون بالفلسفة والعلم وكانوا كما يصفهم
أحد الأعضاء، شباب نصف متحدٍ ونصف متهكم، وكانوا ممن يلتزمون موقفا معينا تجاه بعض
مباحث الفلسفة التقليدية وخصوصا الميتافيزيقا، حيث كانوا يمقتون وبشدة جميع
القضايا الميتافيزيقية ويوجهون نشاطاتهم الفلسفية لانتقادها وإبعادها عن العلم. ولقد سمي هذا النادي ب (النادي الميتافيزيقي the metaphysical
club ) وإن نقدهم للميتافيزيقا متأت من
فهمهم الخاص للفلسفة بصورة عامة، حيث يقول تشارلز ساندرز بيرس (1914-1839) C.S
Peirce مؤسس المذهب: إن " الفلسفة،
كما أفهم الكلمة، هي علم وضعي نظري ".
كان بيرس من أبرز أعضاء النادي ولكن انضم إليهم فيما بعد
وليم جيمس (1910-1842) حيث التقى بهم في خريف عام 1874.
ومن الإعضاء الآخرين جوزيف فانر وهولمز ورايت وأبوت وجون
فسك وكانت لهم اختصاصات مختلفة واهتمامات مشتركة، حيث يقول بيرس أن جيمس ورايت
كانوا ممن يهتمون بالعلم ويتفحصون أقوال الميتافيزيقا. ومن خلال مناقشات هؤلاء
الأعضاء تبلورت فكرة البراجماتية عن بيرس والتي عبر عنها أفضل تعبير في مقاله
"كيف نجعل أفكارنا واضحة How to make
our ideas clear ? والذي نشر عام 1878.
وقد انحل هذا النادي فيما بعد، إلا أن البراغماتية كمنهج فلسفي بقيت في كتابات
بيرس، تلك الكتابات التي لم تكن معروفة على نطاق واسع حتى عام 1898 حيث نشر وليام
جيمس مقاله " التصورات الفلسفية والنتائج العملية" الذي أكد فيه على
أفكار بيرس وطورها، ثم بدأت البراجماتية منذ ذلك الحين تنتشر بوفها مذهبا فلسفيا
انتشارا سريعا جدا ليس في أمريكا وحسب بل وفي أوربا كذلك، فأخذها كمنهج الكثير من
المفكرين والفلاسفة مثل جون ديوي وشيلر في مجال الإنسانيات وجورج هربرت ميد في
النواحي الإجتماعية ولويس ورامزي في مجال الدراسات المنطقية، وتبناها في إيطاليا
كل من جيوفاني بابيني وجيوفاني فايلاتي.
إن مصطلح البراجماتية مشتق من الكلمة
اليونانية القديمة (براغما pragma )
وتعني العمل، ذلك أن البراغماتية أكدت على النواحي العملية في المعرفة، حيث تتخذ
الأفكار والقضايا معناها من خلال التطبيق العملي والإستخدام، ظهرت هذه الفلسفة وتبلورت
في السبعينات من القرن التاسع عشر في أمريكا ثم انتشرت في بلدان أوربا الغربية،
بدأت نهضتها في أمريكا بما يقرب من قرنين بعد أن استقلت عن بريطانا. وعلى الرغم من
أن للبراغماتية جذورها في تاريخ الفكر الفلسفي إلا أن صياغتها في أمريكا كانت على
يد ثلاثة من مفكريها والتي بفضلهم أصبحت طابعا مميزا للتفكير الأريكي وهم: تشارز
بيرس، ووليام جيمس وجون ديوي..
وسنتوقف على دلالتها عن وليام جيمس وهو موضوع الدراسة.
وليام جيمس ومبدأ التحقق:
تختلف براجماتية وليم جيمس عن النظرية البراجماتية عن
بيرس بصورة واضحة، ويرجع سبب ذلك إلى طبيعة فهم جيمس للفلسفة البراجماتية وطريقة
تفكيره الخاصة واهتماماته الشخصية بالدين والأخلاق والصالح في مجال الاعتقاد، إن
خلاصة رأي بيرس هو أن الكلمات والقضايا والمفاهيم او التصورات العقلية أو كما
يسميها بيرس الإشارات والرموز يكون لها معنى في السياق إذا استطعنا أن نشكلها على
هيئة فرض مصاغ صياغة شرطية بصيغة "إذا ... فإن ..." بحيث يكون لهذا
الفرض معنى سابق للنتائج التجريبية التي يحققها والوظيفة العملية التي يؤديها.
وبهذا تكون نظرية بيرس نظرية في المعنى محصورة في مجال مناقشة معاني المفاهيم
العلمية.
أما جيمس فقد انطلق بالطريقة البراغماتية ذاتها إلى
مناقشة موضوعات أخرى، مثل الصدق، الحقيقة، الصالح وغيرها من الموضوعات التي تختلف
عن تلك التي ناقشها بيرس، لكن مع ذلك يتفق جيمس مع بيرس في نقاط أساسية، حيث أن
اتجاه جيمس البراغاماتي هو اتجاه تجريبي كذلك بل كما يسيمه جيمس تجريبي راديكالي
يتشبث بالمعطيات الحسية والنتائج المحسوسة، كما أنه يهمل التجريدات الفارغة
والحلول اللفظية والمبادئ الثابتة والمطلقة وإنها كما يصفها جيمس ضد "ادعاء
النهائية في الحقيقة بإغلاق باب البحث والاجتهاد استنادا إلى مبدأ العلة
الغائية".
إن البراغماتية تتجه نحو العمل والأداء والمزاولة كما
يقول جيمس، حيث أنها ليست فلسفة مغلقة تعطي نتائج نهائية عن الطبيعة والأشياء، بل
هي "مجرد طريقة فحسب، مجرد منهاج فقط"، حيث توجد الكثير من المشكلات
الميتافيزيقية التي لا يمكن إيجاد حلول نهائية لها وبالتالي فإن الجدل حولها لا
ينتهي ولا يمكن أن يحسم وبالتالي لابد من وجود طريقة فعالة للبت في مثل هذه
القضايا من خلال تقييم آثارها ووظائفها حيث أن "الطريقة البراغماتية في مثل
هذه الحالات هي محاولة لتفسير كل فكرة بتتبغ واقتفاء اثر نتائجها العملية كل
حدة"، وإذا لم يكن هنالك فرق عملي يمكن مشاهدته بين فكرتين من الناحية
العملية فإنهما يعنيان شيئا واحدا وبالتالي "فإن أي نزاع أو خصام بشأنها، هو
نزاع عميق تافه معدوم الجدوى".
ولكن ماذا بشأن تحديد معنى المفاهيم؟
إن جيمس ليتحدث عن صدق الأفكار والاعتقادات وعما هو صالح
وصحيح أكثر مما يتحدث عن مشكلة المعنى، ومن المعروف أن الفكرة تكون صادقة أو
حقيقية إذا كان هناك اتفاق بينها وبين الواقع وكاذبة إذا كانت خلاف ذلك، أما صدق
الفكرة عند (جيمس) فإنه يعتمد على قدرتها على أداء وظيفة معينة، وعندما تكون
الفكرة صادقة فهذا يعني كونها صحيحة. حيث يرادف جيمس بين الصحيح والصادق عقليا حيث
يقول: " إن الفكرة تكون صحيحة بمعنى صدقها
العقلي، مادام الاعتقاد بها يعود بفائدة على حياتنا" لكن الصحيح عند
جيمس هو الذي تدعمه الوقائع المحسوسة بالإضافة إلى قدرته على أن يثبت أن صالح وخير
في مجال الاعتقاد، أي أن الفكرة تكون صحيحة بقدر ما تكون صالحة في مجال الاعتقاد،
وبهذا فإن المعيار البراغماتي عند جيمس ليتسع بحيث يتجاوز حدود المفاهيم والافكار
العلمية ليشمل حتى مفاهيم الميتافيزيقا والاخلاق واللاهوت، حيث يقول جيمس "إذا اثبتت الأفكار اللاهوتية ان لها قيمة في
الحياة الملموسة المحسوسة فهي أفكار صحيحة بالنسبة للبراغماتية"
وهنالك مناقشات عديدة تثار هنا حول الصالح، فهو صالح لمن للفرد أم المجموع؟ مما
يجعل براجماتية جيمس تلتقي بالنفعية بشكل أو بآخر.
يرى جيمس أن الأفكار هي اجزاء من خبرتنا التي اكتسبناها
وتكون هذه الافكار حقيقية أو صحيحة بقدر ما تساعدنا على أن ندخلها في علاقات صحيحة
مع أفكار أخرى وأجزاء أخرى من خبرتنا، أي بقدر تفاعلها وتكاملها مع خبرتنا الماضية
لتؤدي وظيفة ما. ولكن جيمس يطرح السؤال التالي حول الحقيقة حيث يقول: "إذا
سلمنا بإن فكرة أو معتقدًا صحيح، فما هو الفرق الملموس الذي يحدثه كونه صحيحا في
الحياة الواقعية لأي امرئ؟ كيف تتحقق الحقيقة؟ ما هي الخبرات التي ستكون مختلفة عن
تلك التي تحدث إذا كان المعتقد زائفا وباطلا؟ وبالاختصار ما هي القيمة الفورية
للحق، اختباريا وتجريبيا وممارسة؟"
وللإجابة على هذه الأسئلة يجب التمييز بين:
تحقق وإثبات مبني على نتائج مباشرة
وتحقق وإثبات مبني على نتائج غير مباشرة، عند جيمس.
والتحقق بصورة مباشرة يتم من خلال مطابقة الفكرة للوقائع التي تحدث في العالم الخارجي باستخدام منهج
التجريب، أما التحقق بصورة غير مباشرة فإنه يتعلق بتلك الأفكار والقضايا التي لا
يمكن التحقق من صدقها بالتجربة الا أن لها نتائج عملية مفيدة في مجال الاعتقاد
ومجالات الحياة، بيد أن التحقق الاخير هذا غير مقصور على المفاهيم العلمية، بل
يتعداه ليشمل مفاهيم اللاهوت والميتافيزيقا كما رأينا من قبل، كما أن جيمس يؤكد
هذا بقوله: "إن أفكارنا يجب أن تتفق مع
الوقائع أو الحقائق سواء كانت هذه الحقائق ملموسة أم مجردة".
إن الحقائق المجردة عند جيمس تشمل جميع العلاقات التي
يمكن إدراكها بالحواس أو بالعقل، بالبديهية أو الحدس.
وهذا تعميم لا يتفق مع نظرية بيرس التجريبية، ولذلك اضطر
بيرس أن يطلق على فلسفته تسمية أخرى هي "البراجماتيكية"
Pragmaticism وذلك لكي يميزها عن البراغماتية pragmatism عند جيمس، ويرى بيرس
أن هذه التسمية فيها من القبح ما ينحيها من أيدي الخاطفين.
وقد انتقد رسل فكرة جيمس هذه في كتابه "مقالات
فلسفية" عام 1910 حيث يقول رسل أن هناك اختلافا بين المعيار والمعنى أو بين
صدق الاعتقاد أو الفكرة وبين القاعدة التي نستخدمها لاثبات صحة هذا الإعتقاد،
ويقول أن "جيمس" و"شيلر" لم يفرقا بينهما بصورة واضحة، ثم
يوضح رسل ذلك بالمثال التالي حيث يقول: إذا اردت أن أعرف أن كتابا معينا موجود في
المكتبة أم لا، فإنني سوف استخدم فهارس المكتبة فإذا ذكر الكتاب في الفهرس فهذا
يعني أنه موجود في المكتبة وإذا لم يذكر فهو غير موجود، والفهارس هنا تقدم قاعدة
أو معيارا ورسل يتحدث هنا عن القاعدة التي نستخدمها لإثبات صحة اعتقاد معين - وجود
الكتاب في المكتبة أو عدم وجوده، وإذا افترضنا أن الفهارس شاملة لجميع الكتب،
فإننا سوف نقول أن الكتاب موجود ولكن قولنا أن الكتاب في المكتبة لا يعني – ورسل يتحدث
هنا عن المعنى – إنه مذكور في القياس، بل يعني فقط أن الكتاب ممكن أن يوجد في أحد
رفوف المكتبة وهذا بحد ذاته يمثل فرض لا غير، فقد لا نجده في الفهارس، لأنه لم
يدخل فيها بعد أو أن يكون الكتاب مفقودا، لذلك يرى رسل ضرورة التمييز بين الصدق وبين
المعيار المستخدم لاثبات صحة الفكرة، كما يرى رسل أن هنالك صعوبة في التمييز فيما
إذا كان الاعتقاد مفيد أو صادق.
ويجب التمييز بين بعض المفاهيم التي يستخدمها جيمس في
مجال الافكار والمفاهيم التي يستخدمها في مجال الاعتقاد، حيث يقول جيمس إن
الصحة" هي التسمية الدالة على أية فكرة تبدأ سبل التحقق" وأن النافع هي
" التسمية الدالة على وظيفتها التي اكتملت في الخبرة"، أما الحقيقي في
مجال الأفكار فهو "باختصار جدا ليس سوى المطلوب النافع الموافق في سبيل
تفكيرنا" والصحيح في مجال الاعتقاد: " ليس سوى المطلوب النافع الموافق
في سبيل سلوكنا".
وبهذا يصبح الحقيقي هو ما يعبر عن النافع في أفكارنا أو
ما يشكل عادة أو اعتقادا لبعض الأفكار، أما الصحيح فيصبح ما هو نافع في مجال
السلوك والعمل، ويكون الصادق هو الصالح في مجال الاعتقاد، وتصبح الحقيقة دالة على
سبل التحقق ولكن ليست سبل التحقق التجريبية وحسب، بل وما هو ناجح وملائم في مجال
الاعتقاد أيضا، وبهذا تكون الفكرة صحيحة لأن الاحداث تجعلها صحيحة أي "أن صدقها أو حقها يكون في الواقع حدثا سبيلا ألاَ وهُو
سبيل إقالمة الدليل على تحقيق نفسها، وصدقها هو سبيل الوضع بالمشروعية وتصحيح
نفسها" لأن البراغماتية تنظر للصدق نظرة خاصة فلا تعتبره صفة ساكنة
ثابتة بل صفة فعالة حركية تتطور أو تتغير باستمرار ومن هنا جاءت نظرتها الخاصة
للنظرية العلمية، حيث يقول جيمس: " إن النظريات تصبح أدوات ووسائل، لا حلولا
لألغاز ولا إجابات عن أحجية، نستطيع أن نسكن إليها ونخلد، إننا عندئذ لا نضطجع
عليها وإنما نتحرك إلى الامام ونمضي قدمًا، وعند الاقتضاء نعيد صنع الطبيعة ثانية
بعونها"، وبذلك يمكن الحصول على أفكار صحيحة، يعني الحصول على أدوات للعمل
والأداء، ذلك أن الحصول على الصدق ليس غاية بذاته بل هو وسيلة أو أداة للدخول مع
أفكار أخرى إلى مجالات جديدة بطرق مفيدة.
د. أكرم مطلك محمد
الجامعة المستنصرية، كلية الآداب
قسم الفلسفة.
أترك تعليقا