للإطلاع على
الموضوع السابق : وليَم جيمس والفلسفة البراغماتية
المعرفة
إن المعرفة
عند البراغماتيين ذاتية وهي أداة للعمل المنتج، فهي معرفة نسبية، وذلك لأن البراغماتية
تعد الفرد مكونًا من عقل وجسم متصلين معًا ومتكاملين مكونين الشخصية الإنسانية.
وحيث إن الإنسان له آماله وأهدافه وميوله وهو كامل متغير عن طريق تفاعله مع
البيئة، فيمكن أن تكون وسيلة المعرفة هي العقل والحواس معًا أي أن الحواس تتلمس
الأشياء والظواهر، والعقل يفكر فيما يبحث وفي نتائج هذه الظواهر وبذلك يستطيع
الإنسان أن يغير مما قد يرى تغييره، أي أن الفرد يرى الموقف ويتحسسه عن طريق
الحواس، ثم يتفاعل مع هذا الموقف وينتج هذا التفاعل عن تأثر الفرد بالموقف وتأثيره
فيه، ومن هنا تحدث المعرفة.
وعلى هذا فالمعرفة
في نظر البراغماتية عبارة عن علافات نشطة تقوم على الفرد والموقف والتأثير
المتبادل بينهما، ومن هنا يحدب التعلم أو تحدث المعرفة وبهذا يمكن القول بأن البراغماتيين عدّوا المعرفة أداة للعمل المنتج، فانصرف التفكير عندهم عن المبادئ والأوليات إلى
النتائج والغايات، واصبح صدق الفكرة عندهم معناه التحقق من منفعتها بالتجربة.
ولهذا عدوا وسيلة الإنسان الوحيدة للوصول إلى المعرفة هي التجربة، ويرون أن
المعرفة الصادقة هي التي تحقق نفعا في المجتمع، أي يجب أن نرى ونلمس نتائج المعرفة
ونستفيد منها، أي أن المعرفة لا يعترف بها في نظر البراغماتيين إلا برؤية مدى
النفع أو الاستفادة من نتائجها، فالنتيجة هي التي تحدد الحكم الصادق على قيمة
المعرفة وصدقها، وكذلك نجد البراغماتية تعترف بأهمية الفروض والأفكار
العامة في تطور المعرفة الإنسانية.
ويرى جيمس
أنه من المطلوب أن نعتقد التسليم بأن هناك حقيقة أو صدقا، وبأن عقولنا تقدر على أن
تصل إليها وأن تدركها. ومن هنا يرفض موقف الشاك الذي لا يعتقد بذلك ولكن الاعتقاد
في وجود الصدق وفي إمكان أن تدركه العقول يتجه إلى طريقين: طريق المذهب المطلق
الذي يرى أنه في إمكاننا إدراك الحقيقة والصدق كما هي، وفوق هذا في إمكاننا معرفة
أننا وصلنا إلى الصدق أو الحقيقة. والآخر طريق المذهب التجريبي الذي يرى أن هناك
فرقا بين المعرفة وبين إمكان المعرفة، والذي نستطيع الوصول إليه إنما هو
إمكان معرفة الحقيقة دون معرفة أننا قد وصلنا إليها.
إذن كما يلاحظ أن
وليَم جيمس يرى أن هناك يقينا متمثلا في وجود حقيقة وفي إمكان العقل أن يصل
إليها، إلا أن العقل لا يعرف أنه وصل إليها، بينما يرى القائلون بوجود الحقيقة
المطلقة إمكان ذلك. أي أن جيمس يأخذ بطريق المذهب التجريبي.
فنظرية جيمس
في المعرفة نظرية تجريبية، لأنه يعالج كل مشكلة معرفية علاجا يقوم على
التجربة الجزئية المحسوسة رافضا كل تحليل عقلي. فيرى جيمس أنه بالرغم من أن
غرائزنا تحتم علينا أن نكون من رجال المذهب المطلق، إلا أنه يجب علينا عندما نكون
فلاسفة أن نعتبر هذه الحقيقة حالة ضعف في طبيعتنا يجب أن نعالج أنفسنا منها بقدر
الإمكان، ولهذا يقول جيمس: "لذلك ارتضيت فيما يتعلق بنظرية المعرفة،
المذهب التجريبي، وآمنت بنظرية علمية، وهي أنه يجب علينا أن نسير في تجاربنا ونمضي
في تفكيرنا حول هذه التجارب، لان افكارنا وآراءنا لا تتطور وتتدرج نحو الكمال إلا
بهذا السبيل، ولكن ان تصر على أن نظرية من تلك النظريات - أيّ نظريةٍ كَانت- حق لا
يقبل الإبطال أو الشك، فذلك على ما أعتقد خطأ عظيم. فليس هناك يقين لا يعتريه شك
إلا حقيقة واحدة، وهي تلك الحقيقة التي لم تقدر فلسفة الشك نفسها أن تهدمها، ألا
وهي وجود ظاهرة الشعور. وتلك النقطة الجرداء التي تبدأ منها المعرفة، وهي اعتراف
بموضوع يتفلسف الإنسان حوله، وليست الفلسفات المتعددة بعد ذلك إلا محاورات شتى
للتعبير عن حقيقة هذا الموضوع".
وإذا كان وليَم
جيمس يرى أن أصحاب المذهب المطلق الذين يقولون بالصدق أو اليقين المطلق إنهم
اعتمدوا على الأدلة الموضوعية التي برهن تاريخ الفلسفة - في نظره – على عدم صحة
الإعتماد عليها، إلا أنه مع ذلك لا يرفضها، وكذلك الفروض أو الأفكار التي نطرح
للمناقشة لتكون نظريات.
يبين جيمس
رأيه في ذلك ويبين الفرق بينها وبين وجهة نظر القائلين بالأدلة الموضوعية فيقول:
ولكن يجب أن نلاحظ أننا بوصفنا تجريبيين لا نترك البحث أو نفقد الأمل في الوصول
إلى الصدق و إلى الحقيقة لأنا قد تركنا نظرية الأدلة الموضوعية، فلا نزال نؤمن بوجودها
ونعتقد بأننا بالاستمرار في التجارب وفي التفكير فيها نتدرج دائما في القرب منها
والرقي إليها، ونقطة المقارنة بيننا وبين الرجال المدرسيين هي في الطريق الذي
نسلكه. فهم يعدون المبادئ والأصول والفكر، وإما
نحن فنعد النتائج والنهايات إليها. وما له الحكم والفصل في الموضوع هو نتيجته التي
تؤدي إليه، لا ما نشأ هو عنه. فلا يعني منشأ القضية الفرضية رجلَ المذهب
التجريبي في قليل أو كثير، وقد يفترض فروضا مشروعة أو غير مشروعة، فقد يفترض فروضا
توحي بها الشهرة أو تقترح اتفاقا وبالمصادفة ولكن إذا كانت مجموعة التيارات
الفكرية تعاضدها وتستمر معاضدة لها فهذا هو ما يعنيه بقوله: إنها حق.
ولد عدّ وليَم
جيمس مصدر معرفتنا هو الفهم المشترك [i] وهو استخدام تصورات [ii] ذهنية
معينة، ووجد أنها أساس تفكير الإنسان من قديم الزمان ولا يزال يعتقد بها معظمنا
حتى اليوم، فهي متأصلة في نفوسنا لأنها نافعة لنا تخدمنا في أغراضنا العملية سواء
في مجال الحديث أو في التفكير. ولم يعتقد جيمس أن مرحلة الفهم المشترك هي المرحلة
الوحيدة في تحديد المعرفة الإنسانية وإنما يرى أنه توجد إلى جانبها مرحلتان أخريان
هما: مرحلة العلم، ومرحلة النقد الفلسفي. يقول جيمس عن مرحلة العلم والفلسفة: أن
كثيرا من العلماء الفلاسفة حاولوا زعزعة إيماننا بتصورات الفهم المشترك ويشككونا
في بعض عقائده. وبذا تغيرت فكرتنا عن الجوهر وصلته بأعراضه مثلا، وعن التمايز
المطلق بين النفس والبدن، وغير ذلك من التصورات. إلا أنهم لم يتمكنوا من القضاء
عليها قضاء تامًا.
لكننا نتساءل هنا:
هل إن وليَم جيمس يفضل عقائد الفهم المشترك على ما يضعه أمامنا العلم
والفلسفة؟ يجيبنا جيمس عن سؤالنا هذا بأنه لا يمكن القول بأن نموذجا ما من
التفكير صادق صدقا مطلقا دون النماذج الأخرى، وذلك لأن الفهم المشترك - كنحو من
التفكير – صالح لميدان من ميادين الحياة، والعلم صالح لميدان آخر، والنقد الفلسفي
لميدان ثالث. أيها أصدق صدقا مطلقا؟ سؤال لا يعلم جوابه إلا الله. بل إنه لا يوجد
فرض أصدق من آخر، بمعنى أنه نسخة مطابقة للواقع،
إذ إن الحقيقة الوحيدة هي الواقع نفسه، ويقول جيمس في موضوع آخر: إن الفهم
المشترك أكثر المراتب إحكامًا وتماسكًا.
ومما سبق نجد أن
وليَم جيمس يقدر عقائد الفهم المشترك ويجعلها مصدر معرفتنا، ولكنه متردد في الأخذ
بها على نحو مطلق. والسبب في ذلك راجع إلى أن التجربة في تجدد مستمر، وتغير وتطور
وخلق دائم.
ويعتقد جيمس
أن معرفتنا لا تتكون دفعة واحدة، وإنما تبدأ ناقصة، وأننا نكتسبها بالتدريج وأننا
نعمل على اتمام ما بها من نقص باستمرار. وما دامت التجربة مصدر ثقتنا فيجب أن لا
نهمل التجارب الجديدة والوقائع التي تمر عبنا. وينبغي أن نقوم دائما بعملية جرد في
مخزننا القديم. أن التجارب الجديدة لا تتفق والمستودع القديم من عقائد وآراء، بل
قد تعارضه وقد نكتشف بتجربة جديدة أن بعض أجزاء المستودع معارض لبعض، ومن هنا يشعر
الإنسان بالقلق وبالحاجة إلى الخروج منه ووسيلته إلى إلى ذلك هو التوفيق بين
القديم والجديد.
ولكي تكون المعرفة
صادقة عند جيمس يلزم أن يوفق بين القديم والجديد، فيرى أن أية محاولة
للثورة المطلقة على القديم تؤدي إلى
تثبيته، ينبغي الاحتفاظ بالقديم والسماح للواقعة الجديدة أن تنضمَّ للأفكار
القديمة وأن لا يكون هذا الإنضمام مجرد إضافة، بل أن تضاف الفكرة الجديدة إلى القديمة
إضافة تركيبية وترتبط بها ارتباطا شديدًا بحيث يتكون منها جميعًا وحدة جديدة
متماسكة.
وينبهنا جيمس في
عملية التوفيق هذه بأنه يكون التغيير في المعارف القديمة في أضيق الحدود، فيقول:
إنا نرمم ونصلح ونجلو الصدأ أكثر مما نهدم أو نجدد.
ومما سبق يمكن
القول إن المعرفة عند جيمس معرفة ذاتية فردية
تجريبية وبالتالي فهي نسبية، وفي
إمكان العقل أن يصل إلى اليقين إلا أنه لا يعرف أنه وصل إليه.
[i] إن وليم جيمس
متأثر بهذا عند بيرس، الذي عرف الفهم المشترك بأنه : الأفكار والعقائد التي تفرض
نفسها على الإنسان بقوة، أو هو الحكمة الموروثة للمجتمع. ويرى بيرس أن عقائد الفهم
المشترك ليست ثابتة الصدق مطلقة اليقين، بل يجب أن تخضع للإختبار والنقد، ولذا فهي
ممكنة التصحيح.
[ii] من هذه
التصورات: الأشياء، المتشابه والمختلف، الأنواع، العقول، الأجسام، الزمن، المكان،
الموضوع، المحمول، العلية، الخيال، الواقع...
أترك تعليقا