وليم جيمس والفلسفة البراغماتية (3) : الأخلاق

للإطلاع على الجزئين السابقين:


الأخلاق:

لقد جاءت الثورة الأخلاقية الكبرى في تاريخ الفكر الأمريكي مع التغيرات التي جاء بها العلم، فكانت ثورة على الأخلاق والعادات اتسمت بالشك في التقليد والنزوع إلى الفردية والإيمان بأن التماس السعادة واللذة هما أساس معيار الأخلاق.

وعليه فقد اسقطت الثقة في جميع المنظمات والسلطات اللاهوتية والعقائدية والأعراف المتفق عليها، فهم يؤكدون الأهداف الراهنة والمصالح القائمة للناس وغايات أو قيما عامّة، حيث رفض ديوي كل ما يُزعم من أخلاقيات تقتضي مبادئ ثابتة لا تتغير على مر الزمان، ومعايير ومقاييس كانت ثابتة بوصفها الوحيدة الأكيدة التي تصون الأخلاق من الفوضى.

لقد حاول البراغماتيون تفسير الأخلاق تفسيرا يتفق مع وجهة نظرهم العامة ورفضهم شطر الفكر والحقيقة إلى شطرين متناقضين، كما رفضوا التقسيم التقليدي في المنطق بين الصورة والمادي أو بين الفكر والأداء، ومن ثم فقد ربطوا الأخلاق بالحياة وظروفها الواقعية وما تحققه من نفع للإنسان.
وأما بالنسبة لِـ جيمس فالأخلاق عنده تتمثل في عناصر ثلاثة هي: الإلزام الخلقي، والتفاؤل الخلقي، وحرية الإرادة الإنسانية، فهذه العناصر الثلاثة تكون رأيه في الأخلاق.

وليم جيمس والبراغماتية : الأخلاق

ففيما يخص الإلزام الخلقي يرى جيمس أن علم الأخلاق إنساني، وذلك لأنه يرى أن الأخلاق تقوم في عالم به كائنات - لها مطالب ورغبات وإحساسات ومشاعر- هذه الكائنات هي بنو الإنسان. وبناء على ذلك يرى جيمس أن مصدر علم الأخلاق إنساني بحت، وذلك لأن الإنسان هو الكائن الخلقي الوحيد في هذا العالم. ولذا فالمعقول أن يكون الإنسان مصدر الخير والشر والفضيلة والرذيلة، أن الخير خير بالنسبة له والشر شر بالنسبة بالقياس إليه، ومن ثم أمكن لجيمس أن يقول:" إن الإنسان هو الخالق الوحيد للقيم في ذلك العالم وليس للأشياء من قيمة خلقية إلا باعتباره هو" [1].

وعندما وصل جيمس إلى أن الإنسان هو الوحيد الخالق للقيم، جعل مادة بحث الفيلسوف الخلقي هي المثل المتحققة في هذا العالم والتجارب الفعلية التي يعانيها الأفراد ويقومون بأدائها، وينتهي من ذلك إلى أن الحسن ما رأى معظم الناس أنه كذلك، والقبيح ما ينكره غالب الناس.

ثم يتحدث جيمس عن الطريق الذي يؤدي إلى ظهور القواعد الأخلاقية وبناء الحياة الخلقية للجماعات الإنسانية، فيقول: "أن علم الأخلاق فيما يتعلق بالناحية المعيارية مثل العلوم الطبيعية، في أنه لا يمكن استنباطه كله مرة واحدة من مبادئ ذهنية بل لابد أن يخضع للزمن، وان يكون مستعدًا لأن يغير من نتائجه من آن لآخر. والغرض المبدئي في كليهما، طبعا، هو أن الأراء الذائعة حق، وأن القانون المعياري الحق هو ما يعتقده الرأي العام. وانه من الحماقة حقا بالنسبة لكثير منا أن يحاول وحده التجديد في الاخلاق أو في العلوم الطبيعية. ولكن الزمن لا يخلو احيانا من ان يوجد فيه بعض الأفراد الذين لهم هذا الحق من التجديد، وقد يكون لآرائهم أو لأفعالهم المجددة بعض الأثر المحمود فقد يضعون مكان القديم من "قوانين الطبيعة" أخرى خيرا منها، وقد يوجدون بمخالفتهم القواعد الخلقية القديمة في ناحية ما حاله أكثر مثالية وكمالا من تلك التي كانت وتكون تحت تأثير القواعد القديمة"[2] ومعنى هذا أن جيمس يرى ان علم الاخلاق مثل العلوم الطبيعية مستعد للتغيير من نتائجه من ان لآخر على مر الزمن على أساس ان الآراء الذائعة حق، وان القانون الحق هو ما يعتقده الرأي العام، وأنه قابل للتغيير كلما تغير الرأي العام. وقد يتغير الرأي العام بتأثير أحد الأفراد. هكذا يرى جيمس أن الاحكام والقواعد الأخلاقية تجريبية ومتطورة مع الزمن ولا ثبات لها إلى أن ينتهي الإنسان من على الأرض، وهو بهذا يسوي بين الأخلاق والطبيعة في ان كلا منهما خاضع للتجربة الإنسانية. فلا يمكن تكوين فلسفة أخلاقية أو قواعد نظرية للإخلاق عن طريق غير تجريبي، وان الإنسان هو الذي يبني الفلسفة الأخلاقية والحياة الخلقية للجماعات الإنسانية، ومن هنا لا يمكن ان تكون هناك أحكام أخلاقية مطلقة حتى ينقرض النوع الإنساني وما يصدر عنه من سلوك.

أما من حيث التفاؤل الخلقي Meliorism فيرى جيمس أن الخير عبارة عن إشباع مطالب الإنسان وتحقيق رغباته، وتحققه يكون بالنجاح إن الشر ليس أساسيا وعنصرا من عناصر الكون ولكنه شيء يمكن التغلب عليه. لهذا يعلن جيمس أن التفاؤل والتشاؤم شيئان إنسانيان، أي أن الإنسان إذا اعتقد بأن العالم جير وسلك في الحياة وفق اعتقاده هذا، فإن العالم يصبح خيرا حقا. وإذا اعتقد بالتشاؤم أي ان العالم شر، وسلك وفق ذاك، فإن العالم يصبح شرا حقيقيا، ومعنى الخيرية عند جيمس هو ملاءمة عالمنا لحياة خلقية ودينية ناجحة[3].



وعلى هذا فإن الخير عند جيمس يقوم على إشباع مطالب الإنسان وتحقيق رغباته، وتحقيق الخير إنما يكون بالنجاح في تجربة من تجاربنا في الحياة، وكثيرا ما نضطر إلى إتيان أفعال دون أن يكون لدينا مسوغ نظري لذلك. ومعنى هذا أن من حقنا أن نعتنق مبدأ خلقيا أو معتقدًا لا يحملنا على اعتناقه تفكيرنا النظري المجرد، بل تدعونا إلى اعتناقه مطالب الحياة ومقتضياتها. ولهذا فإن جيمس يرى أن الفعل الذي يأتيه الفرد خيرا يتحول عند صاحبه إلى سلوك ناجح في حياته، وخيريته (أي الفعل) تتوقف على تقدير صاحبه. ومن هنا ذهب جيمس إلى أن الفعل الفاضل هو الذي يشبع عند صاحبه رغبة أو يحقق له منفعة، وبمقدارها، تكون هذه النتيجة بمقدار حظه من الخير. هذه قاعدة الخير عند الفرد وه نفسها معيار الخير عند الجماعة، وعلى هذا الأساس يمكن القول إن الخير هو الحل الذي يعطي النتائج المثمرة الموفقة وهو الذي يساعد الإنسان في التخلص من مشاكله.

أما الشر عند جيمس فهو القضية التي لم يستطع أن يجد لها تفسيرا، فانتابته حالة انطوائية أدت به إلى تناقض نفسي، وهذا التناقض أدى به إلى حال من القلق، فمن قوله بوجود إله محب للإنسان التفت إلى فكرة أخرى تصور القوة الباطنة الجبارة التي لا تحب ولا تعطي وإنما تطوي الأشياء طيا بلا قصد ولا غرض وتقذف بها جميعا وباختصار إلى مصير واحد محتوم. وهي فكرة تؤدي إلى خوف وفزع شديدين. إن نظرية جيمس التي أسماها المليورِزم هي النظرية القائلة بإمكانية التحسن والتحول إلى الأفضل، وهو بهذا يقف موقفا وسطا بين مذهبي التفاؤل والتشاؤم لأن العالم عنده ليس خيرا في ذاته وليس شرا في ذاته، وإنما يمكننا أن نجعله خيرا بمكافحتنا الشر الذي فيه.

وعلى هذا فـالأخلاق عند جيمس يصنعها الإنسان، وليست خاضعة لقوة عليا، حتى التفاؤل عنده شيء يصنع، وذلك بمكافحة الشر في هذه الحياة. وبذلك تكون الأخلاق عند جيمس مرتبطة بالحقيقة، لأن الحقيقة عنده شيء يصنع.

وأما بالنسبة لحرية الإرادة فنلاحظ أن جيمس يؤمن بأن الإنسان مختار في أفعاله، وليس مجبرا عليها. فافترض أن الإنسان حر الإرادة، وطلب منه أن يسلك كما لو كان الافتراض صحيحا، ويقول: إن الإنسان سيجد نفسه حينئذ حر الإرادة وأنه يستطيع خلق أفعال جديدة.[4]

ولكن هنا علينا أن نتساءل، ما هو الفعل الإرادي عند جيمس؟ فيجيبنا جيمس على ذلك بأن للفعل الإرادي عنصرين: الأول، عبارة عن فكرة في عقل فرد ما، وتتحول هذه الفكرة إلى فعل حركي، هذا الفعل الحركي هو الأثر الناتج لسيطرة الفكرة على عقل الفرد. والثاني، عبارة عن ما ينتج عن الفكرة من حركات جسمية، فهو شيء فسيولوجي يحدث في أساسه، أي يخضع لقوانين فسيولوجية تتعلق بالحوادث العصبية ونحو ذلك. ولذلك يخرج جيمس البحث في هذا العنصر من ميدان علم النفس ويدخله في ميدان الفسيولوجيا، إذ خطوة الحركة أو الفعل ذاته الناجم من قوة الفكرة، هي خطوة لا أثر للعقل فيها وإنما هي خطوة ثانوية.

يقول جيمس: " الغايات الوحيدة التي تنشأ عن إرادتنا يبدو أنها حركات جسمية، ولذا نبدأ من الحكم بأن الأثار الخارجية المباشرة الوحيدة لإرادتنا هي حركات جسمية، ويجب أن تكون الحركات الإرادية وظائف ثانوية للكائن العضوي لا وظائف أولية".



ويرى جيمس أن البحث في حرية الإرادة قائم على البحث في التفرقة بين الجبر والاختيار، وجوهر المشكلة بين الجبر والاختيار هوالإمكان. وليس له معنى عند جيمس سوى أن الصدفة قائمة. يقول جيمس: " وإذا قلت: أن للصدفة وجودًا حقيقيا فلست جادا في ذلك. لسنا متأكدين من أننا في عالم به صدفة أو ليست به، ولكن يبدو لي أنه كذلك. أنا أريد عالم الصدفة، قل فيها ما تشاء، لكني أرى أن الصدفة لا تعني أكثر من التعدد، فإذا تشبثت بعالم كامل فإني لا أزال أعتقد أن عالما به صدفة أفضل وأحسن من عالم ليست به".

ويرى جيمس أن الجبر هو الجبر هو القول بأنه ليس للمستقبل إمكانيات غامضة، ومن المحال أن يوجد مستقبل جديد عما هو ثابت منذ الأزل، كما عد الإنسان مختارا في أفعاله وليس مجبرا عليها. ويرى أيضا أن الاختيار هو أن الإمكانيات في تحقق مستمر وأن العالم ليس وحدة متماسكة وضرورية وإنما هو تعدد، ولكنه تعدد غير مطلق، أي أن الرباط بين الإشياء ممكن وأن الانفصال بينها ممكن أيضا. ليس ضروريا ولا مستحيلا إن العالم في تصور جيمس مملوء بالممكنات يتحقق بعضها الآن وينتظر البعض الآخر تحققه في المستقبل.

ومما سبق يمكن القول إن الاخلاق عند جيمس هي أخلاق كفاح ونضال، وطبيعة الحياة عمل متصل وكفاح مستمر، وتجدد لا ينقطع وتطور لا يحده حد. وعلى ذلك فلا يمكن أن تكون هنالك أخلاق مكتملة كما لا يمكن أن يكون هنالك عالم مكتمل، ولا يمكن أن تكتمل الأخلاق إلا حين تنتهي آخر تجربة لآخر إنسان. وبهذا يتضح لنا رأي جيمس في الأخلاق والذي يتمثل في أن الأحكام الأخلاقية تجريبية تتطور وتتغير طبقا لتغير الرأي العام الذي يعد في نظر جيمس معيار الصواب بالنسبة للأحكام والقواعد الأخلاقية، فلا توجد أحكام أخلاقية مطلقة بحال من الأحوال عند جيمس.

[1] محمود زيدان، وليم جيمس، ص 182.
[2] وليَم جيمس، إرادة الاعتقاد، ترجمة: محمود حب الله، 1996، ص:101.
[3] وليم جيمس، العقل والدين، ص: 77 و زكريا إبراهيم: دراسات في الفلسفة المعاصرة، ص:45.
[4] محمود زيدان، وليم جيمس، ص 187.

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

أترك تعليقا