الفيلسوف فيلون

لم يكن فلاسفة اليونان يعتمدون على الدين، ولم يجعلوا من الحقيقة الدينية أساسا لتفكيرهم، والفيلسوف الذي سنتعرف عليه اليوم يعد لاهوتيا أكثر مما يعد فيلسوفاً. ولأول مرة يظهر النزاع بين الفلسفة والدين، أو بين العقل والنقل، عند أول الأديان السماوية الثلاثة الرئيسية، ونعني به الدين اليهودي.

هذَا الفيلسوف هو فيلون الإسكندري، أشهر فلاسفة اليهود في القرن الأول الميلادي. وضع مذهبه باللغة اليونانية وشغف بالفلسفة ولا سيما فلسفة أفلاطون حتى أنه لقب بأفلاطون اليهود.

فيلون
ولد فيلون في سنة 25 ق.م من أسرة نبيلة في الأسكندرية، وتوفي سنة 50 بعد الميلاد، ولئن كان معجبا بفلسفة أفلاطون فإن إيمانه بشريعة موسى كان بقلبه أوثق. فالحقيقة كلها إنما هي موجودَة في التوراة، لكن أفلاطون قد توصل إليها أيضا بنوع من الوحي. فالفلسفة اليونانية والشريعة اليهودية كلتاهما تعبر عن الحقيقة، لكن طريقة التعبير تختلف في الدين عنها في الفلسفة. فالدين حق والفلسفة حق، مع فارق أن الدين أكمل وأتم، وإن كان أقل تفصيلا وتدقيقًا. بينما الفلسفة اليونانية أقل شمولا، ولكنها أكثر تفصيلا وأدق صياغة. لهذا كان على فيلون أن يبين ما هنالك من صلة وثيقة بين الفلسفة اليونانية والديانة اليهودية. وقد كان فيلون يرى أن الفلسفة اليونانية مأخوذة من التعاليم العبرية، وأن أفلاطون وأرسطو أخذَا تعاليمهما من موسى ومن التوراة، ومن هنا نشأ ما لهما من حكمة.

لقد كان فيلون متحررا من كل تعصب ديني، حيث أنه لم يكن يوافق الفلاسفة اليونانيين على ما قالوه وحسب، خصوصا ما قاله أفلاطون، بل لا ينكر كل فضل وقيمة للدين الشعبي اليوناني. وكثيرا ما نراه متأثرا بالمعتقدات الشعبية عند اليونان، فهو مثلا في نظريته في الكواكب بحسبانها أجسامًا حية - وإن كان هذا القول قد قال به أيضا أرسطو في صورة مهذبة. ومن بين المفكرين اليونانيين الذين اهتم بهم فيلون أشد العناية نجد في المقام الأول أفلاطون، ثم الفيتاغورية والرواقية.

والطابع العام لفلسفته هو التأويل الرمزي للتوراة. وقد عرف هذا التأويل في المسيحية والإسلام فيما بعد، إذ كان الإعتقاد سائدًا أن الكتب السماوية إنما تخاطب الناس جميعا، العامة منهم والخاصة، ولهذا تلجأ إلى الرموز واستعمال المجاز سترًا للحقيقة على غير أهلها، إذن فالتأويل ضروري لأن فهم النص على حقيقته ليس مقدورا للجميع، وقد كان هذا هو الحل الذي ارتأه فيلون لدرء التعارض بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية، بالإضافة إلى قوله بتأثير الديانة اليهودية على كل التفكير اليوناني.


إن التأويل في نظر فيلون ممكن على أن نعرف كيف نأول نص التوراة في ضوء الفلسفة. فمن الضروري تأويل النصوص التي تثبت لله – إذا أخذت حرفيا – ما لا يليق به من الصفات والأحوال كالتجسيم والكون في مكان والكلام بصوت وحروف، والغضب والندم ... فالله (مثال الخير الذي قال به أفلاطون وهو يهوه إله بني إسرائيل) كما يقول فيلون لا ينفعل فيغضب ولا يندم ولا يتكلم بحروف وأصوات، وليس له من مكان يكون فيه، فـالله يجب أن يكون فوق هذا العالم المحدود، وليس هناك لفظ ولا فكر يستطيع أن يساير أبديته، وهو فوق أن تدركه العقول، وليست تصل نفس الإنسان إلى الله عن طريق العقل والتفكير، ولكن عن طريق رياضة النفس والكشف (هكذا يكون هو المسئول عن خلط التعاليم الفلسفية بالوحي والإلهام الشرقي)، ولا يستطيع الله أن يدير هذا العالم مباشرة لأن هذا العالم مادي محدود، إنما لله كائنات روحانية هم سفراء الله يعملون في هذَا العالم ما يريد الله، ويخلقون ويحكمون، وعلاقة الله بالملائكة وعلاقة الملائكة بالعالم علاقة انبثاق كأشعة الضوء تنبثق من مركز ساطع، ويقل ضوء الأشعة كلما بعدت عن المركز.

لقد كانت فلسفة فيلون خلطا بين تعابير الفلسفة الأفلاطونية والفلسفة الرواقية وتعاليم التوراة ليقدم لنا صورة بدائية فجة لما سيكون عليه المذهب عند أفلوطين من بعده.

للمزيد من التفاصيل عن فلسفة فيلون يمكن الرجوع إلى كتاب عبد الرحمان بدوي "خريف الفكر اليوناني".

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

أترك تعليقا