مَا هي الفَلسفة ؟ - إمانويل كانط


من الصعب أحيانًا تعريف علم من العلوم. ولكن مفهوم العلم يزداد دقة عندَما تخصص له تصورا محددًا، وبذلك نتجنب عدة أخطاء لا تلبث أن تتسرب من مصادر مختلفة إذا لم تتوصل إلى تمييز هذا العلم من العلوم القريبة منه.

إلا أنه يتوجب علينا قبل محاولة تعريف الفلسفة أن نتقدم أولا فنتحرى عن الصفة التي تميز معرفة عن معرفة مختلفة عنها. ولما كانت الفلسفة تشكل جزءا من المعارف العقلية يتوجب علينا بنوع خاص أن نحدد ما نفهمه بهذه المعارف الأخيرة.

والمعارف العقلية هي على الضد من المعارف التاريخية. إذ الأولى تُشتق من مبادئ في حين تشتق الثانية من معطيات. بيد أن المعرفة قد تشتق من العقل وتكون مع ذلك تاريخية، ومثال ذلك المتعلم الذي يتعلم النتاج العقلي لغيره، فإن معرفته بهذا النتاج هي معرفة تاريخية وحسب.
عمانويل كانط

وفي الواقع بإمكاننا التمييز بين المعارف:
1)   بالرجوع إلى أصلها الموضوعي، أي إلى المصادر التي لا شيء سواها يجعل المعرفة أمرا ممكنا. وبحسب هذه النظرة تكون المعرفة إما عقلية وإما تجريبية.
2) بالرجوع إلى أصلها الذاتي، أي إلى الطريقة التي يُحَصّل الإنسان المعرفة بواسطتها. وبحسب هذه النظرة الثانية تكون المعرفة إما عقلية وإما تاريخية، وذلك أيًّا كان مصدرها الخاص.

ويمكن إذا لشيء ما أن يكون معرفة عقلية موضوعيا دون أن يكون ذاتيا سوى معرفة تاريخية وحسب. وإنه لقادح في بعض المعارف العقلية أن لا تعلم إلا تاريخيا، بينما لا أهمية لذلك بالنسبة إلى بعضها الآخر. فمصلا، يكفي البحّار أن يعرف قواعد الإبحار بالرجوع إلى اللوائح التي بحوزته. ولكن رجل القانون إذا كان لا يعلم بالمعارف القانونية إلا تاريخيا، فإنه يكون غير جدير البتة بممارسة مهام القضاء فضلا عن التشريع.


يترتب بوضوح على التمييز المشار إليه بين الموضوعي والذاتي في معارفنا العقلية إمكان تعلم الفلسفة على نحو من الأنحاء من دون امتلاك القدرة على التفلسف. وعليه يجب على الذي يريد أن يصبح فيلسوفًا أن يتدرب على استخدام عقله بطريقة حرة، لا بطريقة تقليدية وآلية إذا جاز القول.
لقد عرفنا المعارف العقلية بوصفها معارف تقوم على مبادئ. ويلزم من ذلك أن تكون هذه المعارف قبلية. إلا أن هناك نوعين من المعارف العقلية، هما الرياضيات والفلسفة، كلاهما قبلي، ولكنهما يختلفان مع ذلك اختلافا ملحوظا.

وهناك زعم شائع بأن الرياضيات تتميز عن الفلسفة من جهة الموضوع، إذ الرياضيات تهتم بالكم والفلسفة بالكيف، وهذا زعم خاطئ. فإن هذين العلمين لا يتميز أحدهما عن الآخر من حيث الموضوع. لأن الفلسفة تشمل كل شيء. فهي إذًا تشمل الكم أيضا. وهذا الأخير، شأن الرياضيات كذلك، على الأقل من حيث أن كل شيء هو ذو مقدار. وحده الاختلاف في نوع المعرفة العقلية أو في طريقة استخدام العقل هو ما يشكل الفصل النوعي بين العلمين. وذلك أن الفلسفة هي المعرفة العقلية القائمة على مجرد التصورات، بينما الرياضيات هي المعرفة العقلية القائمة على بناء التصورات.

وتبنى التصورات بتمثلها في الحدس قبليا من دون الرجوع إلى التجربة، أو عندما يحضر في الحدس الموضوع المتطابق مع تصورنا عنه. ولا يمكن للرياضي البتة أن يستعمل عقله باستخدام مجرد التصورات، بينما لا يمكن للفيلسوف البتة أن يستخدم عقله في بناء التصورات، وفي الرياضيات يستخدم العقل بصورة عينية ولا يكون الحدس تجريبيا بل يعطى لنا قبليا شيء ما هو موضوع الحدس.

وبهذا يتبين لنا أن الرياضيات تمتاز على الفلسفة بكون المعارف الرياضية حدسية. في حين أن المعارف الفلسفية هي على الضد من ذلك استدلالية وحسب. وأما السبب الذي من أجله تعالج الكميات في الرياضيات بصفة خاصة، فإنما مرده إلى أن الكميات يمكن بناؤها قبليا، في حين أن الكيفيات هي على الضد من ذلك لا يمكن أن تحضر في الحدس.

وعليه فالفلسفة هي نسق المعارف الفلسفية أو المعارف العقلية القائمة على التصورات. هذا هو المعنى المدرسي لهذا العلم. أما معناه الكوني، فهو العلم بالغايات الأخيرة للعقل الإنساني.
وهذا المفهوم السامي هو الذي يمنح الفلسفة كرامتها أي قيمتها المطلقة. وبالفعل فإن الفلسفة هي العلم الأوحد الذي لا يستمد قيمته إلا من ذاته والذي يمنح أصلا سائر العلوم قيمتها.
من المؤكد أننا ننتهي دوما إلى التساؤل حول جدوى التفلسف وجدوى الغرض النهائي الذي نلتمسه من ورائها ونعني بذلك الفلسفة نفسها باعتبارها علما بحسب التصور المدرسي لها.

إن الفلسفة بالمعنى المدرسي للكلمة ترمي إلى الحذق فقط. وأما بالمعنى الكوني، فإنها على الضد من ذلك ترمي إلى النفع. فهي إذا مدرسة للحذق بالمعنى الأول، ومدرسة للحكمة بالمعنى الثاني، أي تشريع للعقل. وعلى هذه الجهة ليس الفيلسوف فنان لعقل بل مشرع له.
وفنان العقل أو الفيلَذَوْق (محب الظن) كما يسميه سقراط يطلب المعرفة النظرية وحسب. ولا يبالي إن كانت معرفته تسهم في بلوغ الغاية الأخيرة للعقل الإنساني. فهو يهتم بوضع قواعد من أجل أن يستخدمها العقل في التماس أي غرض كان، أما الفيلسوف الحق، فهو الفيلسوف العملي الذي يعلم الحكمة بالفكر والأمثولة لأن الفلسفة هي مثال الحكمة الكاملة التي تعين الغايات الأخيرة للعقل البشري.


في الفلسفة بمعناها المدرسي ينبغي أن ينجز أمران: أولهما تحصيل رصيد كاف من المعارف العقلية. وثانيهما تظيم لهذه المعارف أو الربط بينها من خلال فكرة الكل.
والفلسفة لا تتيح مثل هذا التنظيم النسقي الصارم وحسب، بل هي أيضا العلم الوحيد الذي يملك بالمعنى الأدق للكلمة تنظيمًا نسقيا ويمنح بقية العلوم وحدتها النسقية.

ولكن إذا اعتبرنا الفلسفة بمعناها الكوني يصح تسميتها أيضا علمَ الشعارات العليا استخدام عقلنا، شرط أن نفهم بكلمة شعار المبدأ الباطني الذي يتم بموجبه الاختيار بين غايات مختلفة.
ذلك أن الفلسفة بهذا المعنى الأخير هي بالتحديد العلم بعلاقة كل معرفة وكل استخدام للعقل بالغاية القصوى للعقل البشري. وهذه الغاية، بما هي غاية عليا، ينبغي أن تخضع لها سائر الغايات وتتوحد فيها جميعًا.

والفلسفة بهذا المعنى العالي تؤول إلى الأسئلة التالية:
1 ماذا يمكنني أن أعرف؟
2 ماذا يجب علي أن أفعل ؟
3 ما المتاح لي أن آمُله؟
4 ما الإنسان؟
والماورائيات تجيب على السؤال الأول. والأخلاق على الثاني. والدين على الثالث. والإناسة على الرابع. على أنه يمكن رد كل شيء في الحقيقة إلى الإناسة. لأن الأسئلة الثلاثة الأولى تتعلق بالآخير.

ولذلك يجب على الفيلسوف أن يكون قادرًا على أن يحدد، أولا، مصدر المعرفة الإنسانية، وثانيا، مدى الإستخدام الممكن والنافع لكل معرفة. وأخيرا عليه أن يعين حدود العقل.
والتحديد الأخير هو الأكثر ضرورة وهو أيضا الأصعب، ولكن الفيلذوق لا يبالي به.
وهناك أمران يحتاج إليهما الفيلسوف بصورة خاصة: أما الأول فهو شحذ القريحة والحذق في استخدامها لبلوغ مختلف أنواع الغايات و أما الثاني فهو البراعة في استخدام كل الوسائل لبلوغ كل الغايات الممكنة.

وينبغي الجمع بين الأمرين: إذ من دون معارف لا يمكن البتة أن يصبح أحدنا فيلسوفا. ولكن المعارف لا تكفي هي أيضا قط لكي تصنع فيلسوفا ما لم يحصل تناسق مناسب بين كل المعلومات والخبرات وما لم يحصل، إضافة إلى ذلك، اللم بتوافق هذه المعلومات والخبرات مع الأغراض العليا للعقل البشري.

وعلى العموم من لم يكن قادرًا على التفلسف ليس جديرا بأن يسمى فيلسوفا. غير أننا لا نتعلم التفلسفي إلا إذا قمنا بترويض واستخدام عقلنا الخاص بأنفسنا.
فكيف يمكن أن تُتَعلم الفلسفة يا ترى؟ ونحن نقصد بذلك المعنى الحصري للكلمة بل الأشد حصرا لها.

في الفلسفة كل مفكر يبني نتاجه على أنقاض نتاج غيره إلى حد ما. ولكن ما من عمل فلسفي قدر له أن يصبح ثابتًا مكينا في جميع أجزائه. من هنا لا يمكن تعلم الفلسفة حقيقة لأنها لم توجد بعد. وحتى لو افترضنا وجود إحدى الفلسفات فلن يكون بإمكان من يستعملها أن يدعي لنفسه صفة الفيلسوف لأنه معرفته بها ستظل معرفة تاريخية من الناحية الذاتية.
بينما الأمر على خلاف ذلك في الرياضيات إذ بالإمكان تعلم هذا العلم إلى حد ما. لأن البراهين هي هنا من البداهة بحيث يمكن لكل واحد أن يصدق بها. وفصلا عن ذلك فإن الرياضيات، بسبب بداهتها هذه، يمكن أن تحفظ بوصفها منظومة يقينية وثابتة.

وأما الذي يرغب في تعلم الفلسفة فإنه على الضد من ذلك لا ينبغي أن ينظر إلى كل المنظومة الفلسفية إلا بوصفها تاريخ استخدام العقل وموضوعات يروض بواسطتها قريحته الفلسفية.
فواجب إذا على الفيلسوف الحق أن يقوم باستخدام عقله بصورة حرة وشخصية بحيث يفكر من ذاته فلا يكون مقلدًا لغيره بصورة حرفية. ويجب عليه أيضا أن يتجنب استخدام عقله بصورة جدلية، أي لا ينبغي عليه أن يتوخى من معرفته الحقيقة والحكمة في الظاهر، وإلا كان مجرد سفسطائي، الأمر الذي لا يليق بكرامة الفيلسوف الذي يعرف الحكمة ويعلمها.

ذلك أنه ليس للعلم بحد ذاته قيمة حقيقية إلا بوصفه أداة للحكمة. ولكن الحكمة لا تستغني البتة عن العلم، بما هو علم، بحيث يصح القول إن الحكمة من دون العلم هي مشروع كمال لن نبلغه أبدًا. والذي يكره العلم ويبدي مع ذلك حبا زائدا للحكمة يدعى "ميزُولوج". والميزولوجيا، اي كره العلم، تنشأ عادة من نقص في المعارف العلمية يخالطه قدر من الإدعاء. وقد يتفق أحيانا للبعض أن يقعوا في إخطاء كره العلم. وهم الذين شرعوا بتعاطي العلوم بكثير من النشاط والنجاح، إلا أنهم لم يجدوا في النهاية في معارفهم العلمية أي نوع من أنواع الرضى والارتياح.

والفلسفة هي العلم الوحيد الذي نحصل بواسطته على ذلك الرضى الباطن. لأنها تقفل الدائرة العلمية تقريبا ولأنها تزود العلوم بالنظام والترتيب.
وإذاً، فلكي نمارس التفكير من ذوات أنفسنا ونتفلسف، ينبغي علينا أن نعتني بالمنهج الذي نسير عليه في استخدامنا عقلنا أكثر مما نعتني بالطروحات التي سيسمح لنا ذلك المنهج بإقرارها.

--- كانط، المنطق
الترجمة العربية لعلي حرب، مأخوذة من مجلة الفكر العربي. العدد 48. السنة الثامنة، أكتوبر 1978.

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

أترك تعليقا

:)
:(
hihi
:-)
:D
=D
:-d
;(
;-(
@-)
:P
:o
:>)
(o)
:p
:-?
(p)
:-s
(m)
8-)
:-t
:-b
b-(
:-#
=p~
$-)
(y)
(f)
x-)
(k)
(h)
cheer