ما هي الفلسفة ؟


هذا المقال عبارة عن تفريغ لماجاء في فيديو "ما هي الفلسفة؟" وستجدون في آخر المقال رابط الفيديو لمن يفضل مشاهدته.

السلام عليكم ومرحبا بكم في عالم الفلسفة، سلسلة سنحاول من خلالها تذوق الفلسفة، التعرف على تاريخها ، دراسة مذاهب الفلاسفة ، والتفاعل مع قضاياها، لكن قبل الحديث عن عالم الفلسفة من المؤكد أن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو التساؤل عن ماهية هذه الفلسفة التي سنلج عالمها. لهذا موضوع أول حلقة سيكون هو السؤال : " ما هي الفلسفة ؟ "


ما هي الفلسفة ؟


إن الفلسفة كلمة تثير في النفس ما تثير من غموض وإبهام، فهي تعني في الوجدان الشعبي الكلام الثرثار الذي لا فائدة وراءه، أو الكلام المعقد والمبهم، وقد تستعمل للدلالة على الزندقة والكفر وكلها دلالة بعيدة كل البعد عن الفلسفة، فالفلسفة ليست غريبة ولا خيالية بعيدة عن الواقع كما سنرى خلال هذا التقديم. فدعونا نحاول الاقتراب و لو قليلا من تعريف الفلسفة.


الفلسفة لغويا مشتقة من الأصل اليوناني : فيلوصوفيا filosofia، وهي كلمة مكونة من شقين فيلوس بمعنى حب ( أو صداقة ) وصوفيا بمعنى حكمة وهكذا تكون الفلسفة هي محبة الحكمة و يقال أن أول من صاغ العبارة هو فيتاغورس لكن المرجح عندنا أن سقراط هو من صاغ الكلمة، لما عرف على فيتاغورس من تعظيم للذات يتنافى مع وصف محب الحكمة، و ما يؤكد قولنا هذا ما قاله سقراط في محاورة فيدروس متحدثا عن الأدباء والخطباء والمشرعين المعاصرين له:

" لا يمكنني أن أسميهم حكماء، لأن هذا الإسم اسم عظيم يخص الله فقط، إن لقبهم الملائم و المعتدل هو محبو الحكمة أو فلاسفة" .

لكن هذا التعريف اللغوي لا يساعدنا في تحديد معنى الفلسفة خصوصا إذا علمنا أن الفلاسفة العرب كانوا يضعون الحكمة والحكيم مكان الفلسفة والفلاسفة وأن الحكيم عندهم على إطلاقه هو أرسطو فنجد مثلا ان ابن رشد يقول ' الحكمة هي صاحبة الشريعة و أختها الرضيعة ' وهو يقصد بالحكمة الفلسفة طبعا، لكن ما نستفيده من هذا الاشتقاق اللغوي هو أن جوهر الفلسفة ليس امتلاك المعرفة بل حب المعرفة والبحث عنها إن الفلسفة، كما يقول سليم دولة، معناها أن يكون الانسان بسبيله إلى الحقيقة.

و هكذا فالاشتقاق اللغوي يضيء جانبا من الفلسفة أو بالأحرى يضيء جانبا من جوانبها، و لكنه غير كاف لإضاءة دلالتها, فيبقى السؤال "ما الفلسفة ؟" قائما. عند البحث في الكتب والموسوعات الفلسفية تلاحظ أن الدلالات والتعاريف كثيرة ومتنوعة وقد ينفي بعضها بعضا مما يعرقل مسيرة البحث عن تعريف جامع للفلسفة ومن التعريفات التي صادفتها نجد أن الفلسفة : " تفكير في التفكير" وهو تعريف يغطي فرعا من الفلسفة و ليس كل الفلسفة، و الفلسفة كما يقول شيشرون هي "فن الحياة"، و من تعريفات أرسطو أن الفلسفة هي المعرفة العقلية و العلم بالمعنى الأعم، كما نجد مقولة ديكارت الشهيرة الفلسفة كلها بمثابة شجرة جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفزياء و غصونا المتفرعة من هذا الجذع هي كل العلوم الأخرى، لكن إذا كانت هذه هي صورة الفلسفة قديما فإن مجالها أصبح يضيق مع تقدم العلوم و انفصالها عنها، و يقول هربرت سبنسر أنها المعرفة التامة التوحيد، نجد كذلك أن الفلسفة ضرب من التأمل المنظم المرتبط بالتجربة الذاتية للفرد، و على العكس من ذلك تجد من يقول أن الفلسفة ليست تأملا و لا تفكيرا و لا تواصلا بل هي إبداع المفاهيم،كما يقول دولوز و غثاري في كتابهما "ما الفلسفة ؟".

وهكذا نلاحظ أن التعاريف تختلف باختلاف الفلاسفة، ذلك لأن كل تعريف للفلسفة يفترض فلسفة ما. فلو أخذنا أفلاطون كمثال لوجدناه يقول أن الفلسفة هي معرفة المُثُل أو الكلّيات الخالدة الكامنة وراء ظواهر الأشياء. ففلسفة أفلاطون تقوم على التمييز بين عالم المثل وعالم الأشياء و الكائنات، الأول عالم علوي مثالي و أزلي و الثاني عالم سفلي، مادي و فان، و لكل شيء في عالمنا المحسوس توجد صورة مثالية ومطلقة في عالم المثل، فالأحصنة مثلا كثيرة ومتنوعة في عالمنا وكل هذا التنوع والتعدد صادر عن صورة واحدة كاملة هي " مثال الحصان" و بما أن هاته الصور غير محسوسة فغاية الفيلسوف هي السعي لمعرفتها بواسطة العقل، للتعرف بشكل أكبر على أفلاطون يمكنك زيارة مقال عنه بالضغط على أفلاطون، هدفنا هنا يقتصر على إيضاح أن كل تعريف للفلسفة يعكس فلسفة صاحبه، و كمثال آخر يمكن أن نأخذ ابن رشد الذي يقول أن " فعل التفلسف ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات و اعتبارها من جهة دلالتها على الصانع" فالفلسفة عنده هي أعمال العقل في الموجودات للإستدلال على الخالق، و هذه المقولة تعكس بشكل واضح انشغال بن رشد بتبيان انعدام التعارض بين الحكمة و الشريعة أو بين الفلسفة و الدين.

و هذا يؤكد، مرة أخرى، ما سبق وقلناه من كون كل تعريف للفلسفة يعكس أو يفترض فلسفة ما وهذا بسبب كون الفلسفة خاضعة للزمان و المكان فهي ليست متعالية عن التاريخ والفلاسفة كغيرهم يتأثرون وينفعلون بالمجتمع، لذلك يجب أن نتخلص من تلك النظرة الخارجية للفلسفة التي تقوم على فصل الفلاسفة عن ظروفهم، وأزمنتهم وعلى السعي وراء جمع حشد من تعاريف الفلسفة تُجتث من مذاهبها بصورة جزافية، إن سؤال ما الفلسفة بألف و لام التعريف يفترض العثور على تعريف جامع مانع للفلسفة و هذا يوقعنا في وثوقية القول الواحد والإيمان بالرأي الوحيد مما يخالف طبيعة الفلسفة التي أشرنا إليها في البداية، ولا يمكن التخلص من هذه الإشكالية كما يقول سليم دولة في كتابه "ما الفلسفة؟" إلا بتجريده من ألف ولام التعريف فنتخلص من وهم البحث عن سراب تعريف ماهوي للفلسفة، تعريف شامل للفكر الفلسفي، وبذلك نقتنع أن كل تعريف لا يكون إلا نسبيا ينطبق على فلسفة فيلسوف بعينه.


لهذا يفضل أن نترك صياغة التعريف كنتيجة لاحقة للممارسة الفلسفية وليس كمقدمة أو شرط للتفلسف، وحتى تتضح الصورة أكثر دعونا نعرج على مجال الفن، فإشكالية التعريف والمدارس نفسها مطروحة فيما يتعلق بالفن، فقد نتسائل إذا ما كان رسم الأطفال فنا، وعما قد يجعل بعض اللوحات التشكيلية المشهورة مختلفة عنه، ما الفرق بين هذا المرحاض الذي يعرض كقطعة فنية وبين هذا المرحاض؟ ما الذي يجعل الأول فنا والثاني أداة عادية ؟ و هل الصورة الفوتوغرافية تعتبر فنا رغم أنها تعكس الطبيعة كما هي؟ أسئلة كثيرة تعكس إشكالية تعريف و تحديد مفهوم الفن، لكن هل صعوبة وضع الحدود والمعايير تمنعنا من الإحساس بالجمال؟ أكيد أن الجواب سيكون بالنفي؟ فعدم القدرة على تحديد معنى الفن بشكل دقيق لا يمنعنا من تذوق جمال المنتجات الفنية، ومن المؤكد أنه كلما ازددنا معرفة بالمدارس الفنية كلما ازداد إدراكنا للجانب الابداعي والفني في أعمال قد تبدو عادية أحيانا، وتماما كما تستيقظ لدينا فكرة الجمال عن طريق منتجات الفن وتتبلور هاته الفكرة عبر التعرف على المدارس الفنية، فخير طريق لولوج عالم الفلسفة هو التعاطي مع قضايا الفلسفة والتعرف على مذاهبها، وهذا الكلام لا يعني مطلقا أننا لازلنا بعيدين عن الفلسفة فلقد ولجنا عالمها منذ طرحنا السؤال "ما هي الفلسفة؟"، كما أن الأسئلة السابقة عن الفن ومعاييره والحدود الفاصلة بين الفن واللافن هي أسئلة فلسفية وأكيد أن الكثيرين قد سبق وفكروا فيها، وما دام كل إنسان يسائل الحياة، ويفكر في أصلها وغايتها، وفي مصير الإنسان وفي البعث والخلود، وفي الخير والشر، ويسعى لإيجاد أجوبة مقنعة، فنحن نستطيع أن نقول إن كل إنسان، ومادامت له نظرة في الحياة، فهو فيلسوف بشكل من الأشكال، فالفلسفة هي الساعة التي يتحير فيها العقل ويرتد إلى نفسه كما يقول أرسطو، لهذا يقول زكريا إبراهيم في كتابه مشكل الفلسفة : " الفلسفة هي تلك العملية التساؤلية التي نحاور فيها أنفسنا و نتحاور مع الآخرين و العالم " وهاته هي المقولة التي أحب أن أختم بها، فالتساؤل الدائم ورفض شهادة الواقع والسكون إلى المسلمات وعدم التلقي دون إعمال العقل هو بداية الفلسفة.

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

أترك تعليقا