الفيلسوف ابن رشد


ولد أبو الوليد محمد بن محمود المعروف بابن رشد في قرطبة سنة 520هـ/1126م (وقد عرف عن الغرب باسم "أفرْوِّيس averroes". كان جده وأبوه من مشاهير القضاء، تبوأ كل منهما مركز قاضي القضاة، وكان لهما شأن في ميدان السياسة، كل ذلك سمح لابن رشد بتلقي ثقافة كاملة في الإلهيات والفقه والشعر والطب والرياضيات والفلك والفلسفة. ثم انتقل ابو الوليد إلى مراكش عام 1153م وغدا في عام 1169م قاضيا على إشبيلية، وأنهى في هذه السنة

نفسها "كتاب الحيوان" و"شرح أوسط لكتاب الطبيعيات" واتصفت هذه الفترة من حياته بوفرة الإنتاج، ثم أنهى عام 1174م "الجوامع في الخطابة" و"في ما بعد الطبيعة"، واضطر بحكم وظائفه أن يستأنف حله وترحاله، فعاد إلى مراكش سنة 1178م، وألف في تلك السنة " مقالة في الجرم السماوي"، ثم عينه "أبو يعقوب يوسف" أمير الموحدين، طبيبا خاصا له عام 1192 (وكان ابن طفيل قد قدمه إليه) ثم بوأه مركز قاضي قرطبة. ولقد نعم بالحظوة نفسها لدى أبي يوسف يعقوب المنصور الذي خلف أبا يعقوب.

ابن رشد


محنة ابن رشد:

كان ابن رشد ممتازا بالحكمة والعلم وشرف المنبت، ولم يأمن حسد معاصريه ومعاشريه، وقد حاول أعداء ابن رشد النكاية به المرة بعد المرة، ففشلوا في أول الأمر لأن الخليفة المنصور كان في بداية عهده محبًا للفلسفة مجَاهرًا بذلك. ولكن لما تحولت نفس المنصور عن الحكمة والحكماء بسبب ما لحقه من التطور العقلي الذي حبب إليه التصوف والإلتجاء إلى الأولياء والزهاد، تسلح أعداء ابن رشد وأنصارهم من حاشية الأمير وكعادتهم بسلاح الدفاع عن الدين وعن شريعة الإسلام، فثارت الشكوك والظنون حول عقيدته، فجمع المنصور كبار الفقهاء في قرطبة وعرض عليهم كتب ابن رشد، توطئة لتعليلها أو تحريمها، وفي هذا المجلس مثل القاضي أبو عبد الله ابن إبراهيم مروان المدعي العام، إذ نهض برفع الدعوى على ابن رشد، ثم نهض بتعريف الناس بالإتهام الخطيب أبو علي بن حجاج، ولم يدافع ابن رشد عن نفسه، ولم ينهض لهذا الدفاع أحد من أصدقائه، وبعد هذا صدر الحكم بنفيه إلى قرية "أليسانة" قرب قرطبة، ثم نشر الخليفة في الأندلس والمغرب منشورا كتبه كاتبه أبو عبد الله ابن عياش لتحريم الفلسفة وإعدام كتبها واضطهاد رجالها، وتحذير الناس من شرها كأنما كان قيام الفلسفة واشتغال المفكيرن بها ونهوض العقل بأداء وظيفته الطبيعية في النظر العقلي، مرهونا بقرار يدعو إليه خصومها ! وقد ظل ابن رشد على تلك الحال ومات معزولا عن الناس، دون أن يرى الأندلس مرة أخرى، وكان ذلك سنة 1198م. وقد نقل رفاته من ثم إلى قرطبة.

مؤلفات ابن رشد:

شروحات ابن رشد
الترجمة اللاتينية لشروحات ارسطو والتي نشرت بإيطاليا بين 1550 و1553.
خلّف ابن رشد الكثير من المؤلفات، ولا يمكن أن نتكلم عنها في هذا المقال بالتفصيل، ومن أهم هذه المؤلفات شرحاته لمؤلفات أرسطو، حيث كان يهدف إلى بعث أفكار المعلم الأول على نحوها الحقيقي، وتجدر الإشارة إلى خطأ من يعتقد أنّ بن رُشد مترجم لفلسفَة أرسطُو فقط، بل الأصح أنه كان شارحًا لأرسطو، فهو لم يكن يحسن اللغة اليونانية [ وكذلك السريانية والفارسية والإسبانية التي كانت لغة القوم الذين ترعرع بينهم، فلم يكن يجيد غير العربية]، فقد كان في دار الخلافة في الأندلس أطباء من النساطرة الذين كانوا قد ترجموا كتب أرسطو إلى اللغة العربية. وكان كثيرون من علماء السريان والكلدان قد ترجموا هذه الكتب إلى العربية قبل عصر ابن رشد بثلاثة قرون. وإن فاتته اللغة الأصلية فقد حرص على تتبع جميع الترجمات المعروفة في عهده وفحصها ومقارنتها، ومع ذلك فلم يسلم من الوقوع في الخطأ، طبعا بسبب جهل المترجمين بآداب اليونان وتاريخهم، ومن أمثلة ذلك أنه خلط بين بروتاغوراس وفيتاغورس وحسب هيراقليطس جماعة من أتباع هرقل أولهم سقراط...

وقد شرح ابن رشد فلسفة ارسطو بطرق ثلاث. الاولى الشرح الوجيز. والثانية المتوسط والثالثة الشرح الكامل أو المطول. في الأول يتناول ابن رشد مواضيع أرسطو ويؤلف فيها من عند نفسه مقالات في غاية الأهمية. فهو في هذا الكتاب مؤلف لا شارح. وفي المتوسط يذكر في صدر كل فصل منه بضع كلمات من كتاب أرسطو ثم ينطلق في الشرح والتأليف فيختلط كلامه بكلام أرسطو حتى يصعب فصلهما. وأما في المطول فيذكر فقرات أرسطو فقرة فقرة ثم يشرح أجزاءها شرحا كافيا. ولذلك كان ابن رشد أعظم شارح لأرسطو. ومن الكتب التي نقلها عن أرسطو "الكون والفساد"، "ماوراء الطبيعة"، "البرهان"، "النفس"،" الأخلاق" وغيرها ...


وبالإضافة إلى شروحاته كَتب ابن رشد مؤلفات أخرى ذات قيمة كبرى نذكر منها كتاب "تهافت التهافت" وهو كتاب ضخم ألفه للدفاع عن الفلسفة ورد هجمات الغزالي، وفيه يتتبع ابن رشد نصوص الغزالي خطوة خطوة، فيدحض أقواله على التوالي، ويذهب في بعض الاحيان، إلى الاستشهاد بكتب أخرى من كتب الغزالي نفسه، مبينا له أنه وقع في تناقض فاضح، وقد ركز في رده هذا على المسائل الثلاث التي كفّر الغزالي الفلاسفة من أجلها، وهي إنكار بعث الأجساد، وقِدم العالم، وقصر علم الله على الكليات. وكان هدفه هو إثبات إمكانية التوفيق بين الفلسفة والدين، فمهد إلى هذا بالإستدلال بالقرآن على وجوب النظر العقلي، ومتى صح هذا وجب الإنتفاع بالتراث اليوناني، ومحاولة التوفيق بين النص الديني وتراث العقل القديم، بتأويل ظاهر النصوص وجعلها منسجمة مع منطق العقل السليم، وقد سعى لتحقيق ذلك في كتابيه: "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" و"الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الأمة"، وهو بذلك يرى أن للآيات ظاهرا وباطنا، ولا ينبغي أن نقف عند الظاهر حتى لا تكون العلاقة بين الدين والعقل علاقة تضاد وتنافر، وإن كان من الخير للعامة أن يكتفوا بظاهر النص، لأن التأويل يضرهم ولا يجدي معهم.

وقد عمل على التوفيق بين الوحي والعقل، فصرح بأن للعقل ميدانا يُحسن التفكير فيه، فإن تجاوزه ضل سبيلا، ومن هنا كانت الحاجة للوحي ضرورية باعتباره متمما للعقل، ومن ذلك معرفة الله تعالى والسعادة والشقاء في الدنيا وأسبابها ووسائلها...

وَإذَا تقرّر هذَا كله، وكنّا نعتقد، معشر المسلمين، أن شريعتنا هذه الإلهية، حق، وإنها التي نبهت على هذه السعادة، ودعت إليها، التي هي المعرفة بالله [عز وجل]، وبمخلوقاته، [فإن] ذلك متقرر عند كل مسلم من الطريق الذي اقتضته جبلته وطبيعته من التصديق، وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التصديق، فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان [بالبرهان] إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق [بالأقاويل] الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية.
وذلك أنه لما كانت شريعتنا، هذه الإلهية، قد دعت الناس من هذه الطرق الثلاث، عمّ التصديق بها كل إنسان، إلا من [جحدها] عنادًا بلسانه، أو لم تقرر عنده طرق الدعاة فيها إلى الله تعالى، لإغفاله ذلك من نفسه.
ولذلك خص عليه [الصلاة و] السلام بالبعث إلى الأحمر والأسود أعني لتضمّن شريعته طرق الدعاء إلى الله تعالى، وذلك صريح في قوله تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن".
وإذا كانت هذه [الشريعة] حقا، وداعية غلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا، معشر المسلمين، نعلم، على القطع، أنه لا يؤدي النظر البرهاني غلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.
ابن رشد، فصل المقال، ص 30-32.

فلسفة ابن رشد السياسية والإجتماعية:

كأغلب فلاسفة الإسلام تأثر ابن رشد بجمهورية أفلاطون وأستحسن تطبيق مبادئها على الإنظمة الإجتماعية، فاستمد فلسفته السياسية منها، والتي تقوم على وضع السلطة في أيدي الشيوخ، وتعليم الأمة الفضيلة بقوة الفصاحة والشعر، كما أكد على ضرورة وجود جيش يحمي الرعية. وقد كان يقول،متحدثا عن الظلم، "إن الظالم هو الذي يحكم الرعية لمصلحته لا لمصلحتها. وأفظع أنواع الظلم ظلم القساوسة"، وكان يرى أن "حكومة العرب القديمة في صدر الإسلام كانت على نظام جمهورية أفلاطون، ولكن معاوية هدم نظامها وأتلف جمالها بأن خلع سلفه ثم أسس دولة استبدادية، وكان من نتيجة ذلك، تقوض أركان دولة الإسلام وحدوث الفوضى في سائر بلاده ومنها بلاد الأندلس".

وموقفه من المرأة يتلخص في أن المرأة أقل من الرجل في الدرجة لا في الطبيعة، فهي قادرة على ممارسة أعمال الرجال مثل الحرب والفلسفة، ولكن بدرجة أقل من الرجل، وقد تتجاوز المرأة الرجل في بعض الفنون مثل الموسيقى، ولم يكن يعترض على حكم المرأة للجمهورية، فهي صالحة للحرب وضرب أمثالا بنساء إفريقيا وقال: "إن إناث الكلاب تحرس القطيع مثل ذكورها".

يرى ابن رشد أن الحالة الإجتماعية التي كانت سائدة حينها لا تسمح بالإحاطة بكل ما يعود على المجتمع من منافع المرأة، فهي في الظاهر صالحة للحمل والحضانة فقط، وما ذلك إلا لأن حال العبودية التي أنشأت عليها النساء أتلفت مواهبهن العظمى، وقضت على اقتدارهن العقلي، ولذلك لم ترى امرأة ذات فضائل أو على خلق عظيم، وحياة النساء تنقضي كما تنقضي حياة النبات، فهن عالة على أزواجهن، وقد كان ذلك سببا في شقاء المدن وهلاكها بؤسا لأن عدد النساء يربو على عدد الرجال ضعفين، فهن ثلثا مجموع السكان، ولكنهن يعشن كحيوان طفيلي على جسم الثلث الباقي بعجزهن عن تحصيل قوتهن الضروري.

خاتمة :

ابن رشد في مدرسة أثينا
ابن رشد في  لوحة "مدرسة أثينا" لرافييل
هذه المقالة مجرد تقديم بسيط لسيرة وفلسفة ابن رشد وهي لا توفيه حقه، فقد كان ابن رشد من كبار فلاسفة الإسلام ومن أشهر الحكماء في العصر الوسيط، وقد كان له شأن عظيم في نظر أهل أوروبا، ولم يبخل عليه ميخائيل أنجلو بمكان في جحيمه الخيالي الذي صوره في سقف معبد سيكتين بالفاتيكان، كما ذكره دانتي في قصيدته، وفي الصورة أدناه جسد الفنان الإيطالي رافييل شخصية ابن رشد في لوحته الشهيرة "مدرسة اثينا" حيث يظهر ابن رشد بالعمامة العربية وهو منتبه خلف الفيلسوف فيتاغورس.



شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

أترك تعليقا

:)
:(
hihi
:-)
:D
=D
:-d
;(
;-(
@-)
:P
:o
:>)
(o)
:p
:-?
(p)
:-s
(m)
8-)
:-t
:-b
b-(
:-#
=p~
$-)
(y)
(f)
x-)
(k)
(h)
cheer