تجربة الشك لدى الغزالي


هناك اتجاهان فلسفيان فيما يتعلق بالشك، أولهما ما يعرف بالشك المذهبي (راجع: نزعة الشك اليونانية) وهو مذهب يقوم على الشك في كل شيء ويقول باستحالة بلوغ المعرفة، والثاني هو ما يعرف بالشك المنهجي وهو مذهب يقوم على اعتماد الشك كآلية لبلوغ المعرفة، ويقتضي عدم تقبل أي فكرة أو قضية دون فحصها أولا، وقد ارتبط هذا النوع من الشك باسم ديكارت لكن المطلع على كتاب المنقذ من الضلال للغزالي يجد تطابقا غريبا بين منهج الفيلسوفين [الغزالي وديكارت]، مما دفع البعض للتساؤل عما إذا كان ديكارت قد اطلع على مخطوطة الكتاب بعد ترجمتها من طرف أحد المستشرقين، وحيث ان التشابه كبير جد بين كل كتاب المنقذ من الضلال للغزالي وكتاب التأملات لديكارت، عمومًا هذا هو النص الذي يحدثنا عن تجربة الشك لدى الغزالي، أتمنى لكم قراءة ممتعة:

تجربة الشك لدى الغزالي

"ثم فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطلا من علم موصوف بهذه الصفة إلا في الحسيات والضروريات. فقلت: الآن بعد حصول اليأس، لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليات، وهي الحسيات والضروريات. فلابد من إحكامها أولا لأتيقن أن ثقتي بالمحسوسات، وأماني من الغلط في الضروريات، من جنس أماني الذي كان من قبل في التقليديات، ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات، أم هو أمان محقق لا غدر فيه ولا غائلة له؟ فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها، فانتهى بي طول التشكك إلى أن لم تسمح لي نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا، وأخذت تتسع للشك فيها وتقول: من أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة؟ ثم بالتجربة والمشاهدة، بعد ساعة، تعرف أنه لم يتحرك دفعة (واحدة) بغتة، بل على التدريج ذرة ذرة حتى لم يكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرا في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدرا. هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيبا لا سبيل إلى مدافعته، فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات، كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثا قديما، موجودا معدوما، واجبا محالا.


فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات، وقد تكون واثقا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي، فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر، إذا تجلى، كذب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه. وعدم تجلي ذلك الإدراك، لا يدل على استحالته. فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلا، وأيدت اشكالها بالمنام، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أمورا، وتتخيل أحوالا، وتعتقد لها ثباتا واستقرارا، ولا تشك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل؟ فيم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك [التي أنت فيها]؟ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك، كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوما بالإضافة إليها ! فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها، ولعل تلك الحالة ما يدعيه الصوفية أنها حالتهم: إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي (لهم)، إذا غاصوا في أنفسهم، وغابوا عن حواسهم، أحوالا لا توافق هذه المعقولات. ولعل تلك هي حالة الموت، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا"، فلعل حياة الدنيا نوم بالإضافة إلى حياة الآخرة. فإذا مات ظهرت له الأشياء، على خلاف ما يشاهده الآن، ويقال له عند ذلك: " فكشفنا عنك عطاءك فبصرك اليوم حديد". فلما خطرت لي هذه الخواطر، (و) انقدحت النفس، حاولت لذلك علاجا فلم يتيسر، غذ لم يكن دفعه إلا بدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية. فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن ترتيب الدليل. فأعضل هذا الداء، ودام قريبا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والإعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف. فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله [تعالى] الواسعة".
الغزالي، المنقذ من الضلال، من ص 83 إلى 87, دار الأندلس – بيروت

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

أترك تعليقا

:)
:(
hihi
:-)
:D
=D
:-d
;(
;-(
@-)
:P
:o
:>)
(o)
:p
:-?
(p)
:-s
(m)
8-)
:-t
:-b
b-(
:-#
=p~
$-)
(y)
(f)
x-)
(k)
(h)
cheer