على عكس التجريبية التي تعرفنا عليها في منشور سابق والتي تؤكد
العقلانية على مركزية الخبرة الحسية في اكتساب المعرفة، يؤكد أصحاب المذهب
العقلي (Rationalism من ratio اللاتينية التي تعني"عقل") على دور وأهمية
العقل. وكما يحاول التجريبي المتطرف تأسيس كل المعارف على الخبرة الحسية، يحاول فيلسوف
المذهب العقلي المتطرف تأسيسها على العقل والمنطق فقط، حيث ينطلق من
الحقائق الأساسية التي يفترض أنها موجودة وليست نابعة من الخبرة، مثلا مفهومي
السببية والجوهر كما يرى كانط، نصف هذه الحقائق
عادة بأنها قَبلِيّة A priori، لأنها تكون سابقة على
التجربة. مثال على ذلك فرضية 1+1=2 حيث يمكن أن نعرف أن
ذلك صادق بالتفكير فقط فيما يعنيه المجموع. وكذلك الأمر
بالنسبة لمبادئ المنطق الأساسية مثل "أن الشيء لا يكون موجودًا و غير موجود
في نفس الوقت".
وقد بلغ هذا المذهب أوجه أيام الفلسفة اليونانية،
حيث أقر بارمنيدس ( ومعه تلميذه كما كما رأينا في موضوع "زينون")
أنه بصرف النظر عما يخبرنا به الحس، تتضمن فكرة التغير
تناقضا، لذا فإن العقل يشترط خلو الواقع كلية من التغير. يمثل الفيلسوفان فضلا عن
مجموعة أخرى من الأتباع أوج المذهب العقلي المتطرف، وقد كان اسلافهم من الفلاسفة العقليين أقل استعدادا للتخلي عن الحس
بهذه الطريقة العنيدة التي رأيناها مع بارمنيدس. وقد قال ديموقريطس
معترضا على هذه العقلانية المتطرفة "أيها العقل البائس، أتأخذ
أدلتك مني ثم تستغني عني، إنك باستغنائك عني إنما تستغني عن نفسك ".
ونحن نقول المذهب العقلي المتطرف لأنه، كما
رأينا مع التجريبية، هناك من يذهب بهذه النزعة إلى أقصى حدودها كما فعل بارمنيدس و كذلك سبينوزا و ليبنيز اللذان يقران أن كل المعارف الممكنة بما في ذلك
المعرفة العلمية يمكن أن تكتسب من خلال العقل وحده، رغم أنهما لاحظ استحالة ذلك
عمليا باستثناء مجالات محددة مثل الرياضيات، لأنه ليس كل فيلسوف عقلاني يرى أن
العقل هو المصدر الوحيد و الأوحد للمعرفة بل إن الفيلسوف العقلاني عموما يرى أن
المرء لا يستطيع التفكير من دون أن يكون قد حصل على أية تجربة مهما كانت. فنحن
نحتاج إلى من يعلمنا اللغة ويثقفنا بصورة مناسبة، وليست المسألة أن الفلاسفة لا
يحتاجون إطلاقا أية خبرة عن العالم الخارجي. بل الأحرى أن الفلاسفة، ما إن يتزودوا
بمهارات تفكيرية جيدة، وبلغة وبفهم أساسي للأشياء حتى يصبحوا قادرين على التفكير
من دون مزيد من الرجوع إلى الخبرة الحسية (قد أعرف مثلا دون نظر أن كل ما له
حجم له شكل، ولكن فقط إذا كان لدي مفهوم الحجم و مفهوم الشكل).
يجب أن نشير إلى أننا نتحدث هنا عن العقلانية
باعتبارها نظرية في المعرفة لا عن مصطلح العقلانية الأكثر شيوعاً والذي يعني
الاعتراف بدور العقل وأولويته في فهم الواقع والتصدي لبحث مشكلاته وإيجاد الحلول
الواقعية لها، وأهميته في مواجهات المقدسات النصية والغيبية والأيديولوجيات
المختلفة. للأسف لم أجد تمييزاً بين الإثنين في
الترجمات العربية حيث تجد أن rationalism تترجم تارة إلى المذهب العقلي وتارة إلى النزعة
العقلانية في حين نجد في اللغة الإنجليزية مثلا تمييزا بين rationalism و rationality ..
وختاما وبعد أن تعرفنا على كل من التجريبية والعقلانية، أيهما أقرب
إلى عقلك، هل تعتقد أن الأولية للعقل أم الخبرات الحسية؟ وهل
ترى أن العقل يأتي إلى الوجود صفحة بيضاء أم أنه لابد أن يأتي مسلحًا ببعض الأدوات
إذا أراد التعرف على العالم؟
أترك تعليقا