نشأة الفلسفة بين المعجزة اليونانية و الأصول الشرقية

نشأة الفلسفة
بين المعجزة اليونانية و الأصول الشرقية 

امريزيق محمد 


اعتُبرت اليونان و لازالت مهدا للتفكير الفلسفي من طرف الكثير من مؤرخي الفلسفة، حيث يرون أن ما أنتجه الفلاسفة اليونان لم يكن له مثيل في الحضارات الأخرى ففي الوقت الذي كانت فيه العلوم الشرقية علوما عَمَلية تخدم أغراضا يومية، فالجديد في العلوم اليونانية أنها جاءت بتفكير عقلاني، نظري و مجرد[1]، مدفوعة بالبحث عن المعرفة لذاتها، و قد وسم هؤلاء هذا النمط (الجديد) من التفكير بـ'المعجزة اليونانية'، عبارة أطلقها إرنست رينان عندما أراد تفسير ظهور الفكر الفلسفي في بلاد الإغريق، و المقصود بهذه العبارة هو :
  1. أن ما أنتجه اليونان هو على غير مثيل.
  2. أن كل ما صنعوه إنما صنعوه بأنفسهم و لم يأخذوا شيئا من غيرهم.
  3. أن هذا الذي صنعوه قمة بذاته لا تبارى و لا يعلو عليها شيء. بل هي تعلو على كل ما عداها.[2] 
نشأة الفلسفة
لكن "هذا الوصف ليس تفسيرا، بل هو تعبير عن العجز عن التفسير" كما يقول فؤاد زكريا متحدثا عن المعجزة اليونانية[3]. فالفلسفة ظهرت في اليونان لما عرفته هذه البلاد من خصائص جغرافية و سياسية و دينية سهلت عليها التحرر من سيطرت الأسطورة و الخرافة، فمن جهة تموقعت اليونان في مركز الطرق التجارية في تلك الحقبة التاريخية، كما عرفت هي نفسها التجارة البحرية مما سهل عليها الاحتكاك بخبرات و علوم الحضارات المجاورة لها، كما أن بلاد اليونان لم تعرف حكما مركزيا ديكتاتوريا مما زكى حرية الفرد، تلك الحرية التي لعبت دورا رئيسا في تطوير فكر المواطن اليوناني الذي شارك في تسيير شؤون الدولة-المدينة، بالإضافة إلى ذلك لم يعرف اليونانيّ دينا رسميا أو شموليا يسيطر على حياته و يشل تفكيره، كل هاته العوامل ساهمت في ظهور فكر فلسفي متميز في اليونان.




         لكن إذا قلنا أن الفكر اليوناني كان فكرا متميزا فهذا لا يجعل منه معجزة و لا دليلا على العبقرية الإغريقية، بالفلسفة ليست إبداع عرق محدد، لأنه " حتى لو كانت الفلسفة أغريقية فقد كان الفلاسفة أجانب"[4]، و لابد ان الفكر اليوناني استفاد من علوم الحضارات الأخرى، فالاكتشافات الحديثة في الأركيولوجيا و الانتروبولجيا قدمت أدلة كثيرة على الصلة الوثيقة بين الفكر اليوناني و الفكر الشرقي، كما أنه  لم يكن فكرا عقلانيا خالصا أو متحررا من الأسطورة بشكل كلي كما يصوره أنصار المعجزة، فالدراسة الموضوعية للفكر اليوناني تكشف عن الجانب الأسطوري و الديني المغَيّب في الفلسفة اليونانية و المجتمع اليوناني بشكل عام[5].

         عند حديثه عن طاليس، يقول أرسطو، أنه " أول من أسس هذا الضرب من الفلسفة" ( المقصود هنا الفلسفة الطبيعية )، و يُرجع ذلك إلى أن طاليس اعتمد على الملاحظة و مراقبة عناصر الطبيعة و كيفية تشكلها فذهب إلى أن الماء هو أصل كل الأشياء، لكن أرسطو، و في نفس الفقرة، يتساءل إذا ما كان طاليس متأثرا بإنسان الأزمنة القديمة الذي تحدث عن الآلهة، في إشارة إلى أساطير هزيود و هوميروس[6]. و إذا تأملنا هذه الفقرة جيدا نجد أن تفسير قول طاليس بالأصل المائي للأشياء هو اجتهاد أرسطي و لم يأتي على لسان طاليس، هذا بالإضافة إلى أن طاليس كان يقول أن كل شيء فيه "روح"، فهل كان قوله بالأصل المائي للأشياء تفسيرا طبيعيا خالصاً أم أن فيه شيء من الروحانية و الإحيائية؟

         مع طاليس نجد أنكسماندرس و أنكسمانس، حيث قال الأول بالأبيرون apeiron  أو اللامتعين ( يترجمه البعض باللامتناهي ) كأصل للأشياء و قال الثاني بالهواء و هذا الأخير يتحول من شكل لآخر بفعل التكاثف و التخلخل. و نجد كذلك هيراقليطس الذي يقول بالنار و جاء فيما بعد أنبدوقليس، معبرا عن اتجاه توفيقي، ليقول بالمبادىء الأربعة مجتمعة ( الماء، الهواء، النار ، التراب )، و قد دامت نظريته هاته حتى القرن الثامن عشر حين جاءت الكيمياء الحديثة لتضع لها حدا، و الفضل في ذلك يعود إلى أرسطو الذي تبناها، و قد كان انبدوقليس يقول أن ما يجمع أو يفرق هاته هاته العناصر هو قوتي، الحب و الكره، و هنا يجب أن نشير إلى أن الإغريق كانوا يتعاملون مع الإحساسات وحتى مفاهيم كالعدالة على أنها متجسدة خارج الذات البشرية.هذه كانت بداية التفسير الطبيعي الذي قدمه فلاسفة اليونان الأُوَل.

         إذا ما عدنا إلى ألواح بلاد ما بين النهرين القديمة و تأملنا وصفها لنشأة الكون نجدها تقول أنه في البدء كانت الإلهة "نمو" و هي المياه الأولى التي انبثق عنها كل شيء، ثم أنجبت إله السماء "آن" و إلهة الأرض " كي " ، تزوج الإثنان فأنجبا "أنليل" إله الهواء، هذا الأخير كان بين الأرض و السماء فضاق ذرعا بهما فرفع السماء إلى أعلى و أنزل الارض إلى اسفل و راح يسرح بينهما، لكنه كان يعيش في ظلام دامس، فأنجب "نانا" إله القمر، الذي أنجب بدوره "أوتو" إله الشمس. ثم قام إنليل مع غيره من الآلهة بخلق بقية المخلوقات. إذا جردنا هذه الأسطورة من طابعها الأسطوري نجد تصور قريبا من التفسير (العلمي) الذي قدمه الفلاسفة الطبيعيون، خصوصا إذا علمنا أن الآلهة في الفكر الأسطوري القديم هي نفسها الكيانات الطبيعية فعندما نقول الإلهة "نمو" فالمقصود هو المياه الأولى نفسها و "أوتو" إله الشمس فالحديث عن الشمس نفسها، هكذا سنرى أنه و حسب التصور السومري القديم كانت المياه الأزلية الأولى هي الأصل فانبثقت عنها الأرض و السماء و عن احتكاك الاثنين تولّد الهواء الذي، من خلال تمدده، دفع الأرض و السماء كل في اتجاه، و من خلال تكاثفه وجد القمر الذي تولدت عنه الشمس و بعد انتشار أشعة الشمس الدافئة تهيأت الظروف المناسبة للحياة فظهرت الكائنات الأخرى من حيوانات و نباتات[7]. من خلال تأمل هاته الأسطورة السومرية نجد أن البذور الأولى للفلسفة الطبيعية كانت متواجدة في بلاد الرافدين قبل قرون من ظهور الفلسفة اليونانية، و تأثير هذه الأسطورة لازال قائما إلى يومنا هذا و ذلك في الديانات السماوية الثلاث حيث نجد آثارا للأسطورة في الآية السادسة من سورة هود " و هو الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام و كان عرشه على الماء" وكذلك في الآية الثلاثون من سورة الأنبياء " أولم ير الذين كفروا أن السماوات و الأرض كانت رتقا ففتقناهما ". 

         و كذلك نجد عند المصريين أيضا تصورا قريبا من نظرية العناصر الأربعة، يقول جورج طرابشي : 'ثمة مأثور قديم يعيد فكرة العناصر الأربعة إلى قدموس، ولكن الباحثين المعاصرين يقارنون بالأحرى بين توحيد أنبادقليس الرباعي وبين النظرية المصرية القديمة عن "النفوس" الأربعة المتعاقبة لإله الكون الواحد: رع "النار"، محو "الهواء"، جب " التراب"، أوزيريس "الماء" '[8]. و إذا علمنا أن طاليس، أول الفلاسفة الطبيعيين، قد زار مصر و تعرف إلى علومها حسب ما تنقله الكثير من المصادر، حيث يروى مثلا أنه استطاع قياس ارتفاع احد أهرامات مصر باستعمال المبرهنة التي تحمل إسمه ، قلت إذا علمنا ذلك فسندرك وجود صلة بين تصوره لأصل الأشياء و الفكر الشرقي.

         و التأثير لم يأتي فقط من بلاد ما بين النهرين و مصر بل من المحتمل أن هناك تأثيرا للفرس أيضا، حيث نجد بعض المصادر تشير إلى احتمال تأثر هيراقليطس بالأفكار الزرادشتية[9]، كما أن زرادشت كان معروفا لدى اليونان الذين شرفوه و اعتقدوا أنه شخصية تاريخية حقة و حددوا له تاريخا يسبق تاريخهم بألفين و خمسمئة عام، و ذلك ناتج عن الاحتكاك الكبير بين الحضارتين، حتى أننا نجد المؤرخ أكسينوفون يخلط بين قورش ( ملك فارسي ) وسقراط[10].

         تُحدثنا كتب تاريخ الفلسفة اليونانية كذلك عن فيتاغورس الذي يقال أنه من نحت عبارة فيلسوف filosofos، وإن كانت المعلومات المتوفرة عنه لا ترجح ذلك حيث أنه كان ليصف نفسه بالحكيم لا بمحبّ للحكمة. أسس فيتاغورس جماعته التي كانت جماعة دينية بإلاضافة إلى دورها التعليمي، و قد كانت محكومة بقوانين صارمة حيث كان من الواجب على التلاميذ التزام السرية و عدم نقل أية معلومة خارج المجموعة. وقد نقلت بعض الروايات أن فيتاغورس لم يكن يكلم تلاميذه إلا من وراء ستار، و لم يكن يأكل إلا الخضار فقط، كما أنه حرم الفول على تلاميذه وتحكي بعض الروايات الأخرى أنه ادعى أن له فخذا من ذهب، يبدو إذن أن فيتاغورس كان يجمع بين العلم والعقلانية و الدين و الروحية الصوفية، مما يذكرنا بما قلناه عن غياب القطيعة التامة مع الفكر الأسطوري و الديني عند فلاسفة اليونان. أما فيما يتعلق بتصوره للكون فقد كانت المدرسة الفيتاغورية ترى أن مبادىء الأعداد هي نفسها مبادىء الأشياء حيث أن العالم أشبه بعالم الاعداد منه بالماء و الهواء و التراب، لذا فإن الاعداد هي عناصر الأشياء والعالم عدد. وواضح تأثر فيتاغورس بالأسرارية المصرية خصوصا و أنه مكث بمصر قرابة اثنتي عشرة سنة يدرس الفلك و الهندسة و الأسرار الكهنوتية، حسب رواية جورج سارتون، كما قضى أثنتي عشرة سنة أخرى في بابل. وها نحن مرة أخرى نقف على تأثير الحضارات الشرقية في واحدة من أهم المدارس اليونانية[11].

كما تروي لنا كتب تاريخ الفلسفة اليونانية عن الفيلسوف اكسينوفان الذي عرف بانتقاده لشخصانية[12] الآلهة حيث كان يقول أنه لو كانت للأسود و الأحصنة آلهة لصورتها على صورتها كما يفعل البشر، كما رفض تعدد الآلهة الذي كان سائدا في عصره. لكن إذا اطلعنا على التاريخ المصري نجد أن  أخناتون هو أول موحد في التاريخ حتى أن سليم حسن ذهب إلى أنه أخذ فكرته عن الألوهية من مصر مباشرة[13]. سواء كان رأي د. سليم حسن صحيحا أم خاطئا فما يهمنا هو أسبقية الفكر المصري في بلوغ فكرة التوحيد.

بعد اكسينوفان تأتي المدرسة الإيلية، التي أسسها تلميذ اكسينوفان بارمنيدس، و على عكس الفلاسفة الطبيعيين الذين انصب بحثهم على أصل العالم الطبيعي، فقد اهتمت هذه المدرسة بالبحث في ماهية الوجود ذاته، و قد حدثنا بارمنيدس عن فلسفته في الوجود في قصيدة ينقلها عن الآلهة، حيث يروي أن الآلهة استقبلته بترحاب وأخذت يده اليمنى و أخبرته عن طريق الحق و طريق الظن، طريق الحقيقة و طريق المعرفة الظنية غير اليقينية. ينطلق بارمنيدس من عبارة تبدو في ظاهرها بسيطة ( الوجود موجود) لكنها أساس كل فلسفته حيث أنه و باعتماد الاستنباط يحدد المحمولات المناسبة للوجود ( كامل، واحد ، ثابت ...)، كما ينفي تلك التي لا تتناسب معه، وهكذا فهو يثبت إمكانية معرفة الوجود معرفة يقينية بالاعتماد على العقل وحده ممهدا الطريق أمام أفلاطون و أرسطو، ومن هنا كانت أهمية بارمنيدس في تاريخ الفلسفة اليونانية[14].  جاء تلميذه زينون ليؤكد هذه النقلة النوعية التي أحدثها من خلال اختراعه لفن الجدل العقلي ، لتزيدها تأكيدات و براهين ميليسوس خبرة عقلية بعد ذلك[15].

و نستمر في رحلتنا مع فلاسفة اليونان لننتقل إلى المدرسة الذرية، التي جاءت بتصور جديد لأصل الأشياء حيث ردته إلى الذرةatom ، و التي تعني في اللغة الإغريقية ما لا يمكن تقسيمه، و هذا القول ينسب إلى لوقيبوس وديموقريطس. يقول المفكران، نظرا لصعوبة التمييز بين أقوال هذا و ذاك، أن هذه الذرات لها نفس صفات موجود بارمينيدس المطلق و الثابت و أنها تنفصل عن بعضها البعض بخلاء، و هي لا تختلف عن بعضها البعض إلا من حيث الشكل و الحجم. و بحسب ارتباط الذرات بعضها ببعض ووضعها بالنسبة لبعضها تتشكل الأشياء.

في مقابل لوقيبوس وديموقريطس نجد كانادا الفيلسوف الهندي الذي طور مذهبا يكاد يكون مطابقا للمذهب الذري اليوناني، هذا المذهب يعرف باسم فايسيشكا، و يلاحظ ديورانت أن كانادا يذهب، على أتم شبه بديموقريطس، إلى أنه ليس في العالم إلا ذرات و فراغ، و أن الذرات لا تتحرك وفق إرادة إلهية عاقلة، بل بدافع من قوة غير مشخصنة هي القانون أو "أدرشتا" ومعناها الخفي.[16] و نحن نتحدث عن الهند لا يجب أن نهمل ما قاله ديورانت في تقديمه للفلسفة البرهمية حيث قـال : " فبعض كتب 'يوبانيشاد' أقدم من كل ما بقي لنا من الفلسفة اليونانية، و يظهر أن فيتاغورس و بارمنيدس و أفلاطون قد تأثروا بالميتافيزيقا الهندية"[17]، فديورانت الذي بدأ كتابه "قصة الفلسفة (1926)" بأفلاطون يعود ليعترف، في كتابه "قصة الحضارة (1935-1967)"، بفضل الحضارات الشرقية و بقيمة فكرها و فلسفتها، و ذلك بعد أن اتسعت معارفه نتيجة بحثه و تجوله في بلدان الشرق المختلفة.

بعد مذهب الفيسيشكا يأتي مذهبا آخر سمي بالنيايا (تعني طريقة لهداية العقل حتى ينتهي إلى نتيجة)، تبنى النظريات الذرية و الفلكية و النفسية التي وجدها لدى الفيسيشكا، لكنه أهتم بشكل أكبر بالمنطق و التفكير. ينسب مذهب النيايا إلى شخص إسمه جوتاما، و قد كان، كما أرسطو، يعمل على وضع أسس للقياس المنطقي وقد ارتكز القياس المنطقي للنيايا على خمس قضايا شبيهة بالقياس اليوناني و هي : 1) النظرية  Pratijna 2) العلة Hitu   3) المثالUdaharana   4) التطبيق  Upanaya   5) النتيجة Nigamana . و العلل في هذا المذهب ثلاثة أنواع : - علة مادية -  علة شكلية (صورية) -  علة فاعلة أو علة أداتية.[18]

نلاحظ إذا أن الفلسفة الهندية قد أنتجت مذاهب تناسف ما أنتجه الفلاسفة اليونان، و ربما هي مصدر افكار هؤلاء الفلاسفة، حيث أنه إذا ما كان هناك تأثير فلابد أنه كان باتجاه اليونان من الهند لا العكس، كما يقول جورج طرابيشي، أولا نظرا للقدم التاريخي للمدرسة الذرية الهندية، و ثانيا لأن الأغريق كانوا هم -لا الهنود- الذين يخرجون إلى العالم، وثالثا لأن مأثورا يونانيا يعود إلى أرسطو، حسب رواية ديوجين اللايريتي، يؤكد أن ديموقريطس[19] أخذ مذهبه عن حكماء الهند[20].

من الواضح إذن، أن أغلب الإنتاجات الفلسفية لمفكري اليونان تجد لها  أصولا أو نظيرا عند مفكري الحضارات الشرقية، و بالتالي فالقول بأن "أصل الفلسفة اليونانية ليس قائما في الهند أو مصر أو أي قطر خارج اليونان" و أنهم كانوا " أنفسهم هم الوحيدون المسؤولون عنها"، كما يقول ولتر ستيس[21]، مجرد ادعاء مبالغ فيه. فكما رأينا فقد تساءل أرسطو عن إمكانية رد هذه المعارف إلى الانسان القديم الذي تحدث عن الآلهة حسب تعبيره، كما نجد أن ديوجينوس اللايريتي في تأريخه لحياة الفلاسفة ومؤلفاتهم يتحدث عن وجود من يقول أن البرابرة هم من بدأ في دراسة الفلسفة سواء الفرس أو البابليين أو الهنود[22]. فهذا القول جاء في زمن سابق للإكتسافات المتعلقة بتاريخ الحضارات الشرقية، مما اضطر مؤرخي الفلسفة إلى تفسير العلوم المتطورة بتفسير غير تاريخي و غير علمي هو العرق أو المعجزة اليونانية، لكن بعد ظهور هاته الاكتشافات لم يبقى أمام المفكر الموضوعي أي عذر حتى يرفض الأصول الشرقية للفكر اليوناني أو بعضه حتى نكون أكثر دقة.

         و رغم كل الإشارات التي أوردناها في مقالنا هذا عن نقط التقاء الفكر الفلسفي اليوناني بالانتاجات الفكرية للحضارات الشرقية سواء البابلية، المصرية، الفارسية أو الهندية، فهدفنا ليس الحط من قيمة الفلسفة اليونانية أو تصويرها على أنها مطابقة للفكر الشرقي أو منحولة عنه كما ذهب إلى ذلك جورج جيمس في كتابه التراب المسروق[23]. بل الهدف بكل بساطة هو إظهار ما غاب عن الكثيرين من إنتاجات الفكر الشرقي، و ما ذكرنا منها إلا الشيء القليل، و كذا الانفتاح على تصور آخر لتاريخ الفلسفة؛ لأن الأكثر معقولية في نظرنا هو أن لكل حضارة إسهاماتها في تطور الفكر البشري بشكل عام و الفلسفي بشكل خاص. ولا سبيل للمفاضلة بين هاته الحضارة و تلك، لأن كل حضارة هي كِيان قائم بذاته، و كل الحضارات تقف على قدم المساواة، بالتالي فالحضارة اليونانية ليست هي المعيار و ليست أعلى مكانة من غيرها من الحضارات.



         أما موضوع اصل الفلسفة فسيبقى بدون حل محدد، أولا، لأنه من الصعب، إن لم نقل من المستحيل، وضع تعريف جامع مانع للفلسفة، فحتى الفلسفة اليونانية ليست كلا متجانسا، فلو أخذنا بتعريف أفلاطون الذي يرى أن الفلسفة هي البحث عن المُثُل، لما بقي أرسطو فيلسوفا لأنه كان ينفي موضوعية المُثُل، كما لا يمكننا أن نُخرِج كيركغارد و نيتشه من دائرة الفلسفة لأنهما لم يكونا فيلسوفين "عقليين" بالمعنى الكلاسيكي الصارم، فكل تعريف إنما هو تقييد لهذا النشاط الفكري الذي ينبع من صميم الانسان، فالأمر إذن يتعلق بفلسفات لا بفلسفة واحدة واضحة المعالم، فكل تعريف للفلسفة لا يكون إلا نسبيا ينطبق على فيلسوف بعينه، و هكذا فالحديث عن أصل الفلسفة مشروط بالتعريف الذي نعطيه لها، و بالتالي، " فليس هناك عرض نهائي، موضوعي، و لا توجد موسوعة معتمدة لتاريخ الفلسفة يمكنها أن تفي بطبيعة التجربة الفلسفية أو توضح ماهية التفكير الفلسفي"[24]  كما يقول الفيلسوف كارل ياسبرز، و ربما لهذا السبب عدّ بوذا، كونفوشيوس، لاوتسو، ناكارغونا، سانكارا و تشوانغ- تسو و غيرهم من الفلاسفة، و ذلك في كتابه "الفلاسفة العظام"، حيث يعتبر كل من بوذا و كنفوشيوس و سقراط من الفلاسفة الانسانيين.

         هذه النسبية التي تتسم بها الفلسفة هي ما يرجح، في نظرنا، كونها ملازمة للفكر الانساني منذ لحظاته الأولى، فلو عرّفنا الفلسفة على أنها تلك العملية التساؤلية التي يحاور فيها الانسان وجوده و يتساءل عن الحياة والموت، و عن الخير و الشر... فلابد أن الانسان البدائي قد عرف فعل التفلسف، حيث نجد أنه قد عبر عن روحانيته من خلال اهتمامه بعملية الدفن، كما أن الألوان التي صُبغت بها الجثث و الأدوات التي وضعت معها تشير إلى وجود تفكير رمزي لدى الانسان البدائي و اعتقاده بوجود غير مرئي أو عالم أخروي، و هذا ناجم عن تأمله لعالم الأحلام ومحاولة تفسيره على الأرجح، و هذه خطوة كان لها أكبر أثر في تطور الفكر البشري. و بالتالي فكل خطوة خطاها الإنسان لها وزنها في تطور الفكر البشري؛ من أول كلمة، مرورا باكتشاف النار و صنع الأدوات و الاستقرار و تأسيس المدن ووضع القوانين ... وبالتالي فإن الفلسفة و مهما اختلفت تعريفاتها تبقى في النهاية انعكاساً لوعي الانسان بعصره معبرًا عنه بأفكار تلائم تطوره و شروطه الموضوعية.


هوامش و مراجع 



[1] -  فيما يتعلق بموضوع الفكر النظري المجرد نحب إن نشير إلى اقتباس عن جورج سارتون الذي يرى أن الانسان عرف العلم النظري منذ اختراع العدد، حيث يقول: " إن ظهور العدد منذ كان الانسان، أو على الأقل منذ آلاف السنين قبل ظهور حضارة العراق و مصر و الصين ...إلخ يعني نوعا من التجريد، هو التجريد كله، لأن الخطوة الأولى هي أهم الخطوات في كل شيء، في الحساب و الهندسة" ( سارتون،تاريخ العلم، ج1، ص:99،  نقلا عن: محمود محمد علي، الأصول الشرقية للعلم اليوناني، الطبعة الأولى ،عين للدراسات و البحوث الانسانية و الاجتماعية 1998، ص: 171 ). و على هذا القول يمكن أن نقيس اختراع اللغة أيضا، هذا بالإضافة إلى أن لكل علم نظري جانبه التطبيقي (راجع : عبد الرحمان بدوي:  مدخل جديد إلى الفلسفة، الطبعة الأولى 1975، وكالة المطبوعات (الكويت)، ص:44-45 . حيث يقول عبد الرحمان بدوي :" إن أسخف شيء يمكن أن يقال هو أن الفلسفة نظرية و ليست عملية أو أنها لا تتناول أمور الحياة العملية، أو أنها تفكير مجرد بعيد عن كل تحقيق أو تطبيق، و قائل هذا القول في غاية الجهل المركب ليس فقط بالفلسفة، بل وبالمعرفة أيا كانت").

[2] - عزت قرني، مقالة "أثينا و الفلسفة"، عالم الفكر العدد 2 المجلد 38 أكتوبر- ديسمبر 2009 ص: 30

 [3] -  يقول فؤاد زكريا : " إن الكلام عن المعجزة اليونانية ليس من العلم في شيء، فالقول أن اليونانيين قد أبدعوا فجأة، و دون سوابق أو مؤثرات خارجية، حضارة عبقرية في مختلف الميادين هو قول يتنافى مع المبادىء العلمية، التي تؤكد اتصال الحضارات و تأثرها بعضها ببعض، على حين أن لفظ المعجزة يبدو في ظاهره تفسير لظاهرة الانبثاق المفاجىء للحضارة اليونانية، فإنه في واقع الأمر ليس تفسيرا لأي شيء، بل تعبير غير مباشر عن العجز عن التفسير". فؤاد زكرياء، التفكير العلمي، سلسلة عالم المعرفة، العدد الثالث، ص: 98-99.
كما يقول جورج سارتون: " من سذاجة الأطفال ان نفترض أن العلم قد بدأ في بلاد الإغريق. فإن المعجزة اليونانية قد سبقتها آلاف الجهود العلمية في مصر و بلاد ما بين النهرين و غيرهما من الأقاليم، و العلم اليوناني كان إحياءً أكثر منه اختراعاً..." جورج سارتون، تاريخ العلم، الجزء الأول، ص: 20-21 نقلا عن: محمد عبد الرحمان مرحبا، مع الفلسفة اليونانية، الطبعة الثالثة 1988، منشورات عويدات (بيروت-باريس)، ص: 78.

[4] - جيل دولوز و فليكس غاثاري، ما الفلسفة ؟، ترجمة مطاع صفدي، الطبعة الأولى 1997، المركز الثقافي العربي، ص 101.
حيث أن أكثر الفلاسفة و العلماء الموصوفين بأنهم يونانيون لم يكونوا كذلك، كما أن أثينا نفسها لم تنجب سوى فيلسوفين اثنين هما سقراط و أفلاطون، و معظم الفلاسفة الإثينيين كانوا على حد تعبير نيتشه "غرباء"... راجع : جورج طرابيشي، مصائر الفلسفة بين المسيحية و الإسلام، الطبعة الأولى 1998، دار الساقي، ص : 16

[5] -  كمثال على ذلك نورد ما قاله توملين في كتابه " فلاسفة الشرق"، حيث قال: " ... و لا شك أن الأهمية التي احتلتها الأسطورة في فلسفة أفلاطون قد دفعت بعدد من المعلقين إلى افتراض أنه كان مستغرقا في علوم الشرق، بل إنه قد قام برحلات سرية إلى بابل و فارس".( أ.و.ف. توملين، فلاسفة الشرق، الترجمة العربية، الطبعة الثانية، دار المعـارف، ص: 20.) و لا ننسى أن سقراط كان شديد التأثر بنبوءة دلفي و اعتبرها صادرة عن  الإله نفسه، ذلك القول الذي كان دافعا لكل محاوراته، هذا بالإضافة إلى شيطانه الذي كان يمنعه من ارتكاب الأفعال القبيحة و حتى عن ممارسة السياسة، و حين وفاته طلب من أحد أتباعه أن يقدم ديكا كان قد نذره لأله الطب (إسقلابيوس). كما يمكن أن تراجع مناقشة جورج طرابيشي للجوانب العلمية في الحضارات الشرقية في مقابل الجانب السحري و اللاعقلي في اليونان حيث يخبرنا عن عالم الرقى و التعاويذ، الدمى السحرية، آلهة السحر، طقوس السحر الزراعي ... راجع جروج طرابيشي، نظرية العقل: نقد نقد العقل العربي(1) ، الطبعة الأولى، دار الساقي 1996، ص: 37- 56. 

[6]  - C.C.W.Taylor, From the beginning to Plato, Routledge History Of Philosophy, Volume I, 1997, P:1.

[7] - فراس السواح، مغامرة العقل الأولى ، الطبعة الحادية عشر، دمشق، دار علاء الدين 1996، ص: 32-33

[8] - جورج طرابشي، مرجع سابق، ص : 175 ، تعليق 154 .
 راجع أيضا في نفس الموضوع : جمال المرزوقي، الفكر الشرقي القديم و بدايات التأمل الفلسفي،الطبعة الأولى، دار الآفاق العربية 2001، ص: 173

[9] -  P. Anthony , Historical dictionary of ancient philosophy, The scarecrow press, Inc 2007, P: 3 and 281.  

[10] - ويل ديورانت، قصة الحضارة، المجلد الأول، الجزء الثاني، الشرق الأدنى، دار الجيل 1988، (الترجمة العربية) ص: 403 و 425

[11]   محمود محمد علي، مرجع سابق ، ص: 113

[12] -  L’antropomorphisme و يعني تصوير الآلهة في صورة إنسان.

[13] -  راجع : مصطفى النشار، تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي، الجزء الأول، دار قباء للطباعة و النشر و التوزيع ( القاهرة)، 1998م، ص: 181

[14] عزت قرني، الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون، جامعة الكويت 1993، ص: 53 – 62

[15]- يشير مصطفى النشار إلى أن الكثير من الشرقيين خصوصا في مصر و الهند قد سبقوا زينون للحديث عن الجدل ،و أن أول من تحدث عن أصول الجدل هو متاح حوتب، و إن لم يكن كمنهج للبرهنة بل كخبرة خطابية لموجهة أي خصم في حوار. مصطفى النشار، مرجع سابق، ص: 211

[16]  -  ويل ديورانت، قصة الحضارة، المجلد الأول، الجزء الثالث، الهند و جيرانها، دار الجيل 1988، (الترجمة العربية) ص: 251

[17]   المرجع السابق ، ص: 246

[18] -  المرجع السابق، ص: 250 .
     - علي زيعور، الفلسفة في الهند، الطبعة الأولى 1993م،  مؤسسة عز الدين للطباعة و النشر. ص : 355.

[19]  يقول جورج طرابشي متحدثا عن ديموقريطس أن مختلف المصادر تصر على أنه طاف بالأرض قاطبة طلبا للعلم و التقى الحكماء العراة في الهند، و الكهنة في مصر، و المنجمين و المجوس في بابل. راجع جورج طرابيشي، مصدر سابق، ص: 134 .

[20] -  نفسه، ص: 106

[21] -  ولتر ستيس، تاريخ الفلسفة اليونانية، دار الثقافة للنشر و التوزيع (القاهرة)،  1984م ،  ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، ص: 26

 - [22] ديوجينوس اللايريتي عاش في القرن الثالث بعد الميلاد (رغم عدم اتفاق المؤرخين على ذلك) ،كما نجد مثلا أن نومينيوس الأبامي، الذي عاش في أواخر القرن الثاني الميلادي، كان يعتقد أن فلسفة أفلاطون كانت فيتاغورية الأصل و ليس ذلك فقط بل أنها تنحدر من حكماء الهند، سحرة فارس، كهان مصر، و المنجمين الكلدانيين.  راجع  مادة : NUMENIUS OF APAMEA  في  P. Anthony,Op.Cit, P: 183.

[23] - جورج جيمس، التراث المسروق ... الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة، ترجمة شوقي جلال، المجلس الأعلى للثقافة (1996م).

[24]- كارل ياسبرز، تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية، ترجمة عبد الغفار مكاوي، 1994، دار الثقافة للنشر و التوزيع (القاهرة)، ص: 47

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

أترك تعليقا