إن مفهوم
"الآخر" هو أحد مفاهيم الفكر الأساسية، شأنه في هذا شأن "أنا"
أو "كينونة"، وبالتالي فهو يستعصي على التعريف، لأن التعريف يقوم على
الوصف والمقارنة والتمييز والتحديد الخ ... يتعارض مفهوم "الآخر" مع
فكرة "المماثل" أو "المماهي" اذ يتضمن معنى
"المغاير" و "المختلف" و"المتباين"
و"المتميز". علما بأن فكرة "متميز" تعني، أول ما تعني،
العملية الذهنية التي يواسطتها يتم التعرف على فكرة "الآخرية" – لقد
اعتمدنا اصطلاحا كلمة "آخرية" بدلا من كلمة "غيرية" هنا،
تفاديا للالتباس، لأن كلمة "الغيرية" يلازمها معنى أخلاقي هو معنى
السخاء والبذل، استتباعا نقول إن كلمة "آخرية" نقصد ما يخص الآخر في
مقابل "الأنا" – أما كلمة متباين فتنطبق، بالأخص على وجود
"الآخرية" باعتبارها كائنا موضوعيا. فـ "الآخرية" هي صفة ما
هو آخر، وعكس المماهاة.
بعض الفلاسفة
يأخذون كلمة "آخر" بمعنى صفة كل ما هو غير "أنا" إذ ذاك يشمل
مفهومها كل ما هو غير "أنا" سواء الأشخاص الآخرين أو الأشياء. لكن فكرة
"الآخر" بمعنى غير "الأنا" هي مقولة أبستيمولوجية، ملخصها
الاقرار بوجود موجودات خارج الذات العارفة، أي كينونات موضوعية. وهذا مدار الرد
على النظرية المثالية (المثالوية) في نظرية المعرفة، التي تغالي في التشديد على
واحدية الذات العارفة من حيث الوجود.
تنظر بعض الفلسفات
الوجودية إلى "الآخر" بمعنى الشخص الإنساني الآخر على أن الضد الذي
تسلبني نظرته عالمي ويجمد حضوره حريتي ويعيقني اختياره. في الواقع من الصعب نكران
هذه الواقعية القائمة في مضمار العلاقات البينذاتية، إذ أن
التعامل مع الآخر، أو الآخرين، تحكمه، عادة، حاجة التملك أو الإخضاع من طرف ومن
آخر. لذلك تنتصب غريزة الدفاع عن الذات رافضة عالم الآخرين، الأمر الذي يحمل بعض
الاشخاص على قطع علاقتهم الحميمية مع الآخرين، فيعيشون في عزلة فردية صميمية.
وبعضهم يعتاد التعامل مع "الآخر" بشرط أن يكون هذا "الآخر"
مرنا، قابلا للاستغلال. فالمستبد يحول محيطه من الآخرين إلى مجال حيوي شخصي، فيكون
تعامله معهم ونظرته إليهم موسومين بالحذر والتحسب والاحتجاج.
يدل علم النفس أن
أول سلوك يظهر فيه الانسان في طفولته المبكرة هو حركة لمحو "الآخر"، إذ
أن الطفل، بين عمر الستة أشهر والسنة يخرج من حياته البيولوجية الصرف ويكتشف نفسه
في "الآخرين". ربما في هذا ما يفسر بدء اكتساب اللغة التي هي عملية
ترتيب للأشياء ووسيلة تعامل مع الآخرين، لدى الأفراد الأصحاء. أول ما يبدأ الفرد
التعرف إلى نفسه في مواقف خاضعة لنظرة "الآخر"،
إنه أداة التواصل مع "الآخر"، شخصا كان هذا الآخر أم شيئا. وفي التجربة
الداخلية يشعر المرء أنه حضور موجه نحو العالم ونحو سائر الآخرين بدون حدود، إذ
أنه يختلط بهم في اتجاهات عالمية. فالآخرون لا يحدون الشخص، كما تظن الفردية
المغالية، بل يكونونه ويجعلونه ينمو. فالذات لا تكون إلا بواسطة الآخرين ولا تعرف
وجود نفسها إلا بالآخرين.
رشيد مسعود، الموسوعة الفلسفية العربية.
أترك تعليقا