ليست العَلمانية
مذهبا فلسفيا، بل مذهب قانوني- سياسي بالأولى، ولكنها غير منقطعة الصلة بالفلسفة،
لأنها في جانبها النظري نتاج للنظر العقلي ولأنها في جانبها العملي تنبثق عن جملة
من الممارسات والإشكاليات التي تتصل بالعلاقة بين الدين والدولة، بين السلطة
الروحية والسلطة الزمنية، وبالتالي وفي التحليل الأخير بين الثيولوجيا
والأنثروبولوجيا، أي بين الالهيات والانسانيات.
والعَلمانية
بالعربية لفظة مستحدثة كمقابل لكلمة Laïcité أو Laïcisme بالفرنسية. وكلمة Laïcité مشتق من اليوناني Laikos ومن اللاتينية المتأخرة Laicus التي تعني العامي أو ابن الشعب أي المدني غير المتعلم، وذلك في
مقابل كلمة Clerc التي كانت تطلق على رجل
الدين لأنه كان وحده المتعلم عمليا في القرون الوسطى. وأول من استحدث كلمة علماني
بالعربية هو إلياس بقطر واضع المعجم الفرنسي-العربي الصادر عام 1828. على أن
الكلمة لم تأخذ طريقها إلى الانتشار الواسع إلا بعد قرن ونيف من الزمن، وقد فرضت
نفسها لأول مرة على معجم عربي-عربي هو المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية
في مصر في أواخر الخمسينات من القرن العشرين.
وخلافا للاعتقاد الشائع، فإن كلمة علمانية غير مشتقة من العِلم، بل من
العَالم، وعلى هذا فإن العَلماني هو من ينتشب إلى العَالم أو العالمين أي الناس،
في مقابل الرباني المنسوب إلى الرب. وبذلك يكون الاشتقاق العربي المستحدث مطابقا
للاشتقاق اليوناني – اللاتيني لكلمة Laïc. ولكن ليس من قبيل الصدفة أن تذهب الأذهان إلى العلم عند ذكر العَلمانية،
فما ذلك لتشابه الألفاظ فحسب، بل كذلك للصلة المضمونية. فـ العلماني هو بالإجمال
من يأخذ بالتصور العلمي للعالم في مقابل التصور الديني.
وإذا كانت الألفاظ تفهم بأضدادها، فإن نقيض العلماني هو الاكليريكي، أي من
ينتسب إلى الاكليروس، وهو طبقة رجال الدين، أو من يناصر الاكليرية، وهي مذهب يقول
بضرورة تدخل رجال الكهنوت في الشؤون العامة.
واستحداث لفظة العلمانية في القرن التاسع عشر وفي سياق من الترجمة المعجمية
يعني أن المشكلة لم تكن مطروحة في ظل الحضارة العربية الاسلامي التي ما احتاجت
بالتالي إلى نحت المفهوم. والواقع أن إشكالية العلمانية هي تاريخا إشكالية غربية،
وفي المقام الأول فرنسية. ففي فرنسا صيغ المفهوم لأول مرة ، وفي فرنسا أيضا عرف
الصراع بين الدولة والكنسية أكثر أشكاله ضراوة، وفي فرنسا أخيرا تطور، عبر فلسفة
الأنوار وورثتها، فكر فلسفي معادٍ للدين أو لرجاله أو لكليهما معًا.
ومن الممكن القول إن المسيحية هي التي أعطت للعلمانية فرصة لرؤية النور.
فعلى الرغم من أن الكنيسة مارست هيمنة شبه مطلقة على الدولة بدءا من تنصر
الامبراطور قسطنطين وعلى امتداد الالف سنة التي تتألف منها العصور الوسطى، فإن
المسيخ يمكن أن يعد هو الزارع الأول لبذرة العلمانية عندما دعا على نحو لا يحتمل
التباسا إلى الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية بقوله : "أعطوا لقيصر ما
لقيصر، ولله ما لله".
وابتداء من عصر النهضة حدث ما يشبه الانقلاب في العلاقة بين الكنيسة
والدولة. فبعد أن كانت الأولى هي التي تسعى باستمرار إلى استتباع الثانية، صارت
الدولة، وبخاصة من خلال المونارشيات أو الحكومات الملكية المركزية القوية، هي التي
تتطلع غلى استتباع الكنيسة وربطها بعجل مصالحها. ومع الانشقاق البروتستاني الكبير ظهرت إمكانية قيام كنائس قومية، أي كنائس مستقلة عن الزعامة
المركزية البابوية وتابعة للأمير المحلي. وفي فرنسا بالذات، وبعد الصدام الكبير في
مختتم القرن الثالث عشر بين فيليب الجميل، ملك الفرنسيين، وبين بونيفاسيوس الثامن،
بابا روما، تطور في عهد شارل السابع ثم في عهد لويس الرابع عشر المذهب الأنغليكاني
وهو المذهب الذي يقر لكنيسة فرنسا باستقلال نسبي عن الكرسي البابوي، ولملوك فرنسا
باستقلال مطلق في المجال التشريعي الزمني. وهكذا ما كان لفكرة فصل الدولة عن
الكنيسة أن ترى النور لا في القرن السادس عشر ولا في القرن السابع عشر، إذ ما كان
للدولة أن تبتر نفسها بنفسها بعد أن أضحت الكنيسة عضوا من أعضائها. وفي الواقع كان
لا بد من انتظار أواسط القرن الثامن عشر حتى تتفجر، من خلال فلسفة الأنوار، نزعة
ضارية في عدائها للإكليريكية لا على الصعيد النظري فحسب، بل طذلك على الصعيد العملي
من خلال الإجراءات القانونية والاقتصادية التي اتخذتها الثورة الفرنسية ضد الكنيسة
والسلك الكهنوتي. ومن وجهة نظر فلسفية خالصة وجدت الأيديولوجيا العلمانية أو
المعادية للإكليريكية خير ناطقين بلسانها في أشخاص مفكرين مشاهير من أمثال روسو،
داعية الدين الطبيعي، وفولتير الذي نذر نفسه وفكره لمحاربة النذل، والموسوعيين
مونتسكيو وديدرو ودالمبير الذين جعلوا من المادة مبدأ أول ومن الإنسان، لا الله،
مركز الكون.
وبالمقابل، وباستثناء مرحلة عامية باريس القصيرة الأمد، خفَتَ على امتداد
القرن التاسع عشر ضجيج النزعة المعادية للاكليريكية. ولكن مع استقرار الجمهورية
الثالثة ابتداء من عام 1879 عادت العَلمَانية تفرض نفسها، وفي شكل سياسي هذه
المرة. فقد باتت الغالبية في البرلمان للعلمانيين، وأمكن بالتالي إصدار سلسلة من
القوانين وضعت حدا شبه نهائي لتدخل الكنيسة في الشؤون العامة وكفت يدها فيما
يتعلق، بوجه خاص، بالتعليم وقانون الأحوال الشخصية، مما استتبع قطع العلاقات
الدبلوماسية مع الفاتيكان سنة 1904 على أنه كان لا بد من انتظار قيام الجمهورية
الرابعة عام 1945 ليكرس الدستور الفرنسي بصورة نهائية علمانية الدولة، أي لا
طائفيتها وحيادها في موضوع الدين.
وبالإضفة إلى فرنسا فإن أسبق الدول الاوربية إلى إعلان علمانيتها كانت اسبانيا
في ظل الحكم الجمهوري بين 1868 و1876. أما في أمريكا، فعلى الرغم من الطابع
الليبرالي والعقلاني لإعلان استقلال الولايات المتحدة في عام 1776، فإن المكسيك
كانت هي السباقة إلى التكريس العلني لعلمانية الدولة من أواسط القرن التاسع عشر.
كما كانت تركيا في عهد مصطفى أتاتورك هي أول دولة إسلامية تتبنى العلمانية.
وبالمقابل، فإن الدولة اليهودية الوحيدة في العالم، نعني إسرائيل، ما تزال بين
سائر دول العالم أكثرها طائفية لأنها جعلت من الدين نفسها قومية ولم تتخذ لنفسها
دستورا لأن أي دستور معناه الحد من سلطة التوراة والشريعة الموسوية. وباستثناء
الدول الاشتراكية، فإنه يندر اليوم أن نقع على دول أو دساتير علمانية خالصة.
فالقانون الأساسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية (الغربية)، الصادر في عام 1949، يؤكد
مثلا أن "الشعب الألماني واع لمسؤوليته أمام الله". ودساتير النرويج
والسويد لا تبيح أن يكون الملك غير أنغليكاني. كذلك فإن دساتير بعض الدول العربية
والاسلامية التي أخذت بالحداثة تشترط أن يدين رئيس الدولة بدين الاسلام، كما تنص
على أن الشريعة الاسلامية هي مصدر رئيسي أو المصدر الرئيسي للتشريع. أما سويسرا،
التي لا تزال تعمل بدستورها الاتحادي الصادر عام 1874، فلا تزال أقرب إلى
الغاليكانية منها إلى العلمانية، وتنتصر بالتالي لمبدأ سيطرة الدولة على الكنسية،
بالإضافة إلى أن قوانين بعض كونتوتاتها تتضمن مواقف تمييزية إزاء بعض الطوائف أو
الجمعيات الدينية، وذلك هو أحد الأسباب التي جعلت سويسرا تمتنع حتى الآن عن
التصديق عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948. وحتى الدول الاشتراكية
لا يمكن أن تعتبر علمانية خالصة، لأن قوانين بعضها تلزم الدولة وأجهزتها بالقيام
بالدعاية الالحادية، مما يخل بمبدأ أساسي من مبادئ العلمانية، ألا وهو حيادية
الدولة في موضوع الدين.
وبالفعل، إذا كانت العلمانية تعني، في المقام الأول، عدم كفاءة الكنيسة في
الشؤون العامة والمجال الزمني، فإنها تتضمن بالمقابل عدم كفاءة الدولة في المجال
الروحي. فالحرية الدينية شرط أول ومطلق، وبانتفائه تنتفي العلمانية من أساسها.
والدولة العلمانية ليست دولة لا دينية، بل هي دولة لا طائفية. ليست هي الدولة التي
تنكر الدين، بل هي الدولة التي لا تميز دينا عن دين، ولا تقدم أبناء طائفة على
أبناء طائفة أخرى، ولا تخص بعض وظائف الدولة بأبناء طائفة بعينها دون سائر
الطوائف.
هذا من الناحية القانونية، أما من الناحية الفلسفية والمعرفية، فإن أقصى ما
تعنيه العلمانية ليس الإلحاد أو نفي وجود الله بل " تأسيس حقل معرفي مستقل عن
الغيبيات والافتراضات الايمانية المسبقة"، أي مستقل عن المرجعيات المتعالية
التي تعطي نفسها حق تنظيم العلم وتضع لحرية الفكر حدودا تتنافى مع ماهية الفكر
بالذات من حيث أنه لا يقبل الحد. وبكلمة واحدة، إن العلمانية ليست نفيا للاعتقاد،
بل هي تحرير له من القيود والإكراهات الخارجية.
ولا غرو بالتالي أن يكون الفكر الديني الحديث قد عرف في ظل العلمانية تطورا
في العمق ما أتيح له أن يعرفه في ظل الأنظمة الثيوقراطية. فقد استعاد الدين بعده
الداخلي بعد أن كان تقلص، في ظل الثيوقراطيات الآفلة، إلى مجرد طقوس خارجية.
مصادر ومراجع
-
أركون، محمد، نقد العقل
الإسلامي.
-
باييه، أ.، تاريخ الفكر
الحر
-
فولغين، أ.، فلسفة
الأنوار.
-
كابيران، ل.، التاريخ
المعاصر للعلمانية.
-
المعجم العقلاني.
-
ملور، إليك، تاريخ
النزعة المعادية للإكليريكية في فرنسا.
-
موسوعة أونيفرساليس.
جورج طرابيشي
أترك تعليقا