لكي نطرح مسألة تقدم العلم في أفقها الفلسفي، علنيا أن
نفحص عن قرب بعض الاعتراضات التي يقدمها المدافعون عن الاتصال الثقافي (...).
من أقرب اعتراضاتهم إلى الأمور الطبيعية
استنادهم إلى القول بالاتصال التاريخي. فما دمنا نسرد حكاية متصلة للحوادث، يكون
من السهل علينا أن نعيش الأحداث في استمرارها الزمني فنزود كل تاريخ بوحدة الكتاب
واستمراريته واتصاله.
يحلو لأصحاب الاتصال فحص الأصول والوقوف عند العلم في
بداياته وبواكره. لقد كان التقدم العلمي بطيء الخطى، شديد البطء. وكلما ازداد بطؤه
وقلت سرعته، بدا متصلا مسترسلا. وبما أن العلم ينفصل ببطء عن المعارف العادية وينفلت
من صلبها، يسهل الاعتقاد باتصال المعرفة العادية بالمعرفة العلمية. ومجمل القول
فإن أصحاب فكرة الاتصال ينطلقون من السلسة الآتية: ما دامت البدايات بطيئة، فإن
النمو متصل. ولا يذهب الفلاسفة أبعد من ذلك. فهم لا يرون جدوى في أن نحيا الأزمنة
المتجددة، تلك الأزمنة التي يتصدع فيها النمو العلمي وينفجر من جميع جوانبه فـ
"يفجّر" بالضرورة الابستيمولوجيا التقليدية (...).
هناك كيفية أخرى لإلغاء الانفصال وإبعاده عن نمو العلوم
وذلك بإرجاء ذلك النمو إلى خدام مجهولي الإسم. يحلو لإصحاب الاتصال الذهاب إلى
القول بأن التقدم كان لا يبدو في "الأفق" عندما كشف عنه العبقري. حينئذ
تدخل مفاهيم "الأجواء" و"الآفاق" و"التأثيرات" في
عين الاعتبار. وكلما ابتعد المرء عن الواقع، إلا واستند إلى مفاهيم
"التأثريات". وهكذا يرجع إليها لفهم أكثر الأصول إغراقا في الزمن.
ويجعلها أصحاب الاتصال تخترق القارات والقرون. بيد أن مفهوم التأثير، ذلك المفهوم
الذي يحلو للفكر الفلسفي أن يرجع إليه، لا معنى له عندما يتعلق الأمر بنقل
الحقائق، والاكتشافات في العلوم المعاصرة. صحيح أن خدام العلم والعاملين في حضنه
قد أصبحوا يشكلون مجموعات ويتعاونون فيما بينهم، وهم قد أخذوا يشكلون الآن فرقا
ومدارس. بيد أن عبقرية مخبر من المخابر تتولد في الوقت ذاته عن النقد والتجديد.
وإن النقد الذاتي الذي يمارسه العاملون في المخابر يتنافى مع كل ما يمت بصلة إلى
التأثريات. (...) وإن وصف الفكر العلمي كما لو كان فكرا توجهه حقيقة دوغمائية لا
جدال حولها، هو وصف لصورة مشوهة أكل عليها الدهر وشرب. فنسيج التاريخ العلمي
المعاصر هو نسيج الجدال والنقاش. وأن الحجج التي تتبادل فيه وتتصارع هي مناسبات
متعددة لظهور الانفصال.
نوع ثالث من الاعتراضات يلجأ إليه أصحاب فكرة الاتصال
ويستقونه من ميدان التربية. فما داموا يعتقدون باتصال المعرفة العادية بالمعرفية
العلمية، فهم يسهرون على الابقاء عليه ويشعرون بضرورة تدعيمه وإسناده. ويحرصون على
استخراج حجج المعرفة العلمية من بادئ الرأي استخراجا يحلو لهم أن يرجؤوا لحظات
النضج العلمي، فيقفون عند العلم الابتدائي، العلم السهل اليسير ويأخذون على عاتقهم
أن يجعلوا الطالب يشاطر المعرفة الأولية سكونها وثباتها. لكن لا مفر من انتقاد
المعرفة الأولية. وحينئذ نقتحم باب الثقافة العلمية العسيرة.
غاستون باشلار، المادية العقلانية.
أترك تعليقا