لقد حدثت هذه التحولات في بلاد أوروبا الغربية ابتداء من
القرن الخامس عشر للميلاد - بل لعل بوادرها ومنطلقاتها نشأت قبل ذلك بقرن
أو قرنين – وتمثلت أول ما تمثلت بما عرف بـ "النهضة الأوروبية". هذه
الحركة الضخمة، وما رافقها وما تبعها من حركات وثورات لا تقل عنها ضخامة، اجتاحت
غربي أوروبا وانتشرت منها إلى شرقيها وإلى القارات الأخرى حيثما نزلت جاليات
أوروبية بالفتح والتجارة والاستعمار أو غير ذلك، أو حيث نفذ الأثر الأوروبي بصورة
غير مباشرة. وأهم هذه الحركات التي كوّنَت، مع النهضة، المجتمعات الحديثة فالعصرية
هي الإصلاح الديني، والتوسع الجغرافي والتجاري، والثورة العلمية
الأولى و التنور الذي تلاها، والتطور الدستوري والثورة الصناعية في
إنكلترا. والثورتان الأمريكية والفرنسية، وقيام الدول القومية
والامبراطوريات العالمية، والثورة الشيوعية، والثورة العلمية والصناعية
الثانية المعاصرة. إن هذه الحركات متصلة فيما بينها، وهي تنبع من مصدر واحد أو
من مصادر متقاربة ومتداخلة، وتصب كذلك في مجرى واحد أو في مجار متشابكة. ولكنها،
على ضخامتها، ليست سوى المعالم الكبرى للمسار "التحديثي" وقد مهدت لها
وتخللتها تطورات أخرى لم تبد للعيان كما بدت هي، وإنما يجب أن تؤخذ في الاعتبار
إذا ما أريد استكمال صورة هذا التطور واستيعاب جميع العوامل التي أدت إليه.
لقد اختلف علماء الاجتماع وفلاسفة التاريخ في تعيين هذه
العوامل، وفي إبراز ما هو في معتقدهم أصليا ومحددا لسواه. فبعضهم أكد العامل
العرقي، وآخرون الطبيعي والجغرافي، وغيرهم الاقتصادي أو السياسي
أو العقلي أو الاجتماعي. وليس هنا مجال ولوج هذا الميدان المضطرب
الذي يعج بالنظريات المتضاربة. وتكفينا الإشارة إلى "أننا من الذين يجانبون
الأخذ بالتعليل الأحادي، أيا كان العامل المنتقى والمؤكد، وإنما نقول بتعدد
العوامل وتشابكها، وقد يتغلب بعضها على بعض أحيانا، ولكن يبقى لكل منها سهمه، قل
أو كثر، في إحداث التطور أو توجيهه.
على أنه مهما تكن العوامل الفاعلة أو
المحددة، في التطور الإنساني بعامة أو في إحدى مراحله أو جوانبه بخاصة، فإن لكل من
هذه المراحل سمات مميزة تصدر، أكثر ما تصدر، عن نظرة كونيةمعينة تتولد عند أصحابها
أو عن موقف سياسي أو عن مجموعة مواقف أساسية يتخذونها من الوجود والإنسان
والتاريخ.
فإذا التفتنا إلى الحداثة، وجدناها
تنطلق من مجموعة من المواقف الأساسية التالية، وهي مواقف يصح أن نعتبرها
"إيمانية"، وتمثل تحولات جوهرية عما كان عليه الأمر في المرحلة
"الوسيطة" السابقة. وأهم هذه المواقف الأيمانية هي:
إيمان بالعالم الطبيعي:
بأنه العالم الحقيقي، أو، على الأقل، العالم الذي يجب أن ننصرف إليه بأذهاننا ونصب
فيه جهودنا. إنه ليس عالما حقيرا زائلا، وليس مجرد جسر نجوز به إلى العالم الآخر
الحقيقي الثابت السرمدي، بل إن له وجوده الخاص به الخليق بأن يجتذب اهتمامنا وأن
يمدنا بأسباب الرقي والسعادة ويأتي هذا الامداد عن طريق استكشاف القوانين التي
ينتظم بها هذا العالم، وتكوين المعرفة المتراكمة الناتجة عن هذا الاستكشاف،
واستخدام هذه المعرفة في السيطرة على قوى الطبيعة واستغلال مواردها وإمكاناتها
لمكافحة العلل التي تعتري الإنسان ولتوفير وجوه خيره واغتنائه. إن هذا الإيمان
الجديد الذي حملته الحداثة تضمن تحولا جوهريا عن القيم الأخروية إلى القيم
الأرضية: عن ازدراء هذه الدنيا وما يسودها من باطل وشر إلى الانكباب على ما تحتويه
من حقيقة وخير، وعن الرضى بتحمل أعبائها وآلامها لنيل النجاة والسعادة في العالم
الآتي إلى طلب التمتع بما توفره من اسباب النجاة والسعادة في هذا العالم.
إيمان بالإنسان: بأنه أهم
كائن في العالم الطبيعي و"معيار الأشياء جميعا". وهو الغاية والعامل
معا. فتفتح مداركه وقواه وتحرره من العوائق الخارجية والعلل الداخلية هما الغاية
المبتغاة، ويكونان جوهر التحضر كما يرسمان الخط الإيجابي المستمر في التاريخ. هذا
من جهة، ومن جهة ثانية فالإنسان ذاته هو العامل الفاعل في التطور والتحضر، القادر
عليهما والمسؤول عنهما. إنه سيد قدره، خيره وشره، والخير يأتي كلما استوعب هذه
الحقيقة وقام بفروضها معتمدا قواه وإمكاناته الذاتية.
إيمان بالعقل: بأنه ميزة الإنسان ومصدر تفوقه وتفرده. إنه
الأداة التي بها يتوصل إلى الحقيقة ويكون ذخيرته العلمية التي تؤلف لب حضارته
وعنوان مجده. وهذه الذخيرة العلمية ذات وجهين: حشد متزايد من المعارف المنتظمة في
شتى الحقول الطبيعية والإنسانية، ومنهج دقيق في الاكتشاف والحشد والتنظيم. ولهذا
النهج خضائص عدة، أهمها الاستقراء والتجريب. ففيما كان النهج الاستدلالي سائدا في
القرون الوسطى، عمد رواد الحداثة إلى الدعوة إلى الاستقراء والاختبار سبيلا
لاكتساب المعرفة، فجاء تطبيق هذا النهج وتعزيزيه سببا من أهم الأسباب - إن لم يكن
أهمها- في تقدم المعرفة وفي استمرار تراكمها وتجددها خلال العصر الحديثة وإلى
وقتنا الحاضر.
ونتيجة للمعتقدات الثلاثة المذكورة، إيمان
بالقوى والروابط الإنسانية أساس لبناء المجتمعات، إنه إيمان ناتج من
التحول عن العالم الآخر إلى هذا العالم، ومن اعتماد الإنسان فاعلا أصيلا في تعيين
مصيره، ومن السعي العقلاني إلى فهم سنن التنظيم الاجتماعي والتطور الحضاري. فكما
أن للطبيعة سننها وقوانينها التي يجب أن تدرك وتطبق لاستخراج مواردها واستثمارها،
كذلك للتطور الحضاري سننه وقوانينه التي يجب أن تفهم وتراعى في بناء المجتمعات المنشودة.
إن هذا البناء لا يتم من الأعلى غير المنظور، أي بفعل مشيئة وقدرة فوق الطبيعة
والإنسان، وإنما من الأدنى إلى الأعلى، أي من القوى التي تحرك الشعوب والروابط
الناتجة عن هذا التحرك. ومن هنا تقدمت روابط الجنس واللغة والتراث والمصالح
السياسية والاقتصادية والاجتماعية على روابط الدين والمذهب. فكان نشوء القومية،
المرتكزة على تلك الروابط، من أهم ظواهر الحداثة وأجلى معالمها. ولم يكن هذا
النشوء في الغرب سهلا أو سريعا، فلقد اقتضى صراعات عنيفة ومديدة بين الدول الناشئة
وبين السلطات الكنسية التي كانت تبسط زعامتها وحكمها في القرون الوسطى والتي لم
تتنازل عنهما إلا تدريجيا وبفعل القوى السياسية والاقتصادية والفكرية الجديدة التي
أطلقتها الحداثة. هذه القوى جعلت "الأمة" القومية الوحدة الأساسية التي
تتطلع الشعوب إلى تكوينها والتي تميز هذه الشعوب بعضها عن بعض، والتي تتفاعل وتتصارع
في الميدان العالمي. وفي الفترة الأخيرة من العهد الحديث برزت رابطة
"الطبقة" مرتكزا لإيديولوجية أخرى منطلقة. أخذت تتنافس الأيديولوجية
القومية وتتفاعل وتتصارع وإياها. على أن الاثنين تقفان معا في جانب واحد إاء
الأيديولوجية السابقة للحداثة، القائمة على وحدة الدين أساسا للتنظيم السياسي
والاجتماعي وللتمييز والفصل بين الشعوب والفئات، والمستمدة سلطتها وأحكامها من
مصدر إلهي لا من التفاعلات الإنسانية - الطبيعية الإنسانية - الإنسانية.
ولابد هنا من ملاحظات: الأولى هي أن هذه
المعتقدات الأساسية، وما يتصل بها أو ينشأ عنها، لم تسد بالضرورة جميع شرائح
المجتمعات الغربية، فقد ظلت بعض هذه الشرائح تعيش مراحل سابقة من التطور، ولكنها
تسم القوى الفاعلة والموجهة وتمد تلك المجتمعات بما اكتسبت من طابع خاص ومن قدرة
ذاتية ومن سلطة على المجتمعات الأخرى التي لم "تتحدث" بعد أو التي مازالت
على طريق التحديث.
أما الملاحظة الثانية فتتصل بموضوع
"التغريب" (أو الاقتباس من الغرب) الذي تسعى إليه الشعوب النامية اليوم
للسير في طريق الحداثة. ومؤدى هذه الملاحظة أن الاقتباس الحقيقي، إذا ما أريد، لا
يقوم بمجرد استعارة الظواهر والنتائج، وإنما بالنفاذ إلى البواطن والدوافع. ففنون
العيش ونظم السياسة وأساليب التصنيع ووسائل الحرب وغيرها مما تنبهر به أنظارنا
عادة ليست سوى ظواهر خارجية. ومهما يقتبس منها يظل ناقصا، بل ضارا، ما لم يتوصل
المقتبس إلى عللها الرئيسية، التي أجملناها بالمواقف التي اتخذتها الحداثة من
الطبيعة والإنسان والعقل وتنظيم المجتمع، فيحرز لذاته مقومات القدرة
والاستقلال والابتكار ولا يبقى تابعا لسواه وألعوبة بين يديه.
ق. زريق – مجلة المستقبل العربي.
1 التعليقات:
التعليقاتان افضل كتاب قرأته للحداثة لألن تورين وهو مثقف عضوي وناقد كبير.
ردحامد السعيدي /شاعر وروائي
mykabasat.blogspot.com
أترك تعليقا