الليبرالية : مدخل
لم تتبلور الليبرالية كنظرية في السياسة
والاقتصاد والاجتماع على يد مفكر واحد بل أسهم عدة مفكرين في إعطائها شكلها
الأساسي وطابعها المميز. فالليبرالية ليست اللوكية (نسبة إلى جون لوك 1632 –
1704) أو الروسووية (نسبة إلى جان جاك
روسو 1712-1778) أو الملية (نسبة إلى جون ستيوارت مل 1806-1873) وإن كان كل واحد
من هؤلاء قد اسهم اسهاما بارزا أو فعالا في إعطائها كثيرا من ملامحها وخصائصها. فالليبرالية
مجموعة مفاهيم ومبادئ ومواقف تجمع بينها قواسم مشتركة مهمة، ولكنها تتعارض أحيانا.
من هنا تبدو بلورة تعريف واضح ودقيق لمفهوم الليبرالية أمرا صعبا وربما
عديم الجدوى. وفي حال تحديد الليبرالية نجد أن هذا التحديد لا ينطبق على
عدد من الفلاسفة والمفكرين الذين سيموا بسمة الليبرالية.
وإذا كان لليبرالية من جوهر فهو التركيز على
أهمية الفرد وضرورة تحرره من كل أنواع السيطرة والاستبداد، فالليبرالي
يصبو على نحو خاص إلى التحرر من التسلط بنوعيه: تسلط الدولة (الاستبداد السياسي)
وتسلط الجماعة (الاستبداد الاجتماعي). لذلك نجد الجذور التاريخية لليبرالية
في الحركات التي جعلت الفرد غاية بذاته، معارضة في كثير من الأحيان التقاليد
والأعراف والسلطة، رافضة جعل إرادة الفرد مجرد امتداد لارادة الجماعة، ورغم أن الليبرالية،
كأيديولوجيا، هي ظاهرة حديثة نسبيا، فإن بعض تباشيرها تظهر عند ديموقراطي أثينا في
القرن الخامس قبل المسيح، وعند الرواقيين، وفي المراحل الأولى من المسيحية، ثم في
حركة الإصلاح البروتستانتية. ففي خطبة بركليس pericles، 495-429 ق.م الشهيرة، التي أبن بها شهداء أثينا الذين سقطوا في
بداية الحرب ضد اسبارطه، صياغة بليغة لمبدأ مساواة جميع المواطنين أمام القانون
كما أن فيها تعبيرا واضحا عن أهمية الفرد ومسؤوليته السياسية. كذلك فإن بروتاغوراس
Protagoras جعل الفرد مقياس كل شيء وشارك ديموقرطوس Democritus قناعته بأن القوانين
والمؤسسات هي من صنع الإنسان وأن الإنسان بالتالي، مسؤول عنها. ويبقى سقراط، في
حياته وتعاليمه نموذجا فذّا للإيمان بقدرة العقل وأهميته، ولضرورة اخضاع معتقداتنا
للنقد والتدقيق في جو من الحرية والانفتاح. ومن البديهي أنه إذا اعتمدنا النموذج السقراطي
نجد أن مسؤولية تقصي الحقيقة ومسؤولية اتخاذ موقفنا الخاص ومسؤولية الدفاع عن هذا
الموقف بعقلانية وانفتاح، تصبح كلها في النهاية مسؤولية الفرد، وهذا لا يعني، طبعا
أن الفرد يحقق كل هذه المنجزات بمعزل عن المجتمع. فمفكروا الإغريق، ومن بينهم
سقراط، كانوا مقتنعين قناعة تكاد تكون تامة بأن الإنسان كائن اجتماعي. والظاهرة
التي نحاول أن نبرزها والتي اتضحت معالمها في القرن الخامس قبل عصرنا الحالي، هي
خروج بعض المجتمعات اليونانية، خصوصا أثينا، من إطار المجتمعات المنغلقة، هذا
الخروج الذي كاد يتخذ طابع الثورة من خلال التشديد على أهمية الفرد والحريات
الفردية.
أما الخطوة التالية على طريق
الانعتاق من عقلية المجتمع القبلي المنغلق فقد حققها الرواقيون من خلال قولهم
بمبدأ وحدة الإنسان ومشاركة جميع البشر فيها. وهذا الإنجاز مهم جدا خصوصا أن
اليونان ظلوا اقليميي النظرة حتى في أوج حضارتهم وفي ظل الحكم الديموقراطي. كما أن
الرواقيين ركزوا على أهمية اكتشاف حيز في الذات الإنسانية لا تستطيع أن تنفذ إليه
سلطة المجتمع أو أي شكل آخر من أشكال السلطة. ومتى اكتشف الفرد هذا الحيز أصبح
بإمكانه أن يتمتع بقدر من السيادة والحرية لا يتأثر بتقلبات الزمان أو بأهواء
البشر. وقد ساعد هذا المفهوم الرواقي للحرية المرتكز على ذاتية الفرد وخصوصيته على
انتشار المسيحية، لا سيما أن المسيحية ركزت على مبدأ المسؤولية الشخصية وأبرزت دور
الضمير في تقرير أخلاقية تصرف الفرد أو عدم أخلاقيته. غير أن دور الفرد في القرون
الوسطى أصبح ثانويا نتيجة السيطرة الكاملة التي مارستها الكنيسة الكاثوليكية على
المجتمعات الأوروبية برمتها. من هنا أهمية الدور الذي أدته حركات الإصلاح
البروتستانتية ابتداء من القرن السادس عشر. ذلك أن الفرد، لا الكنيسة وسلطاتها
الأكليركية، بات هو المرجع في تفسير الكتاب المقدس ومن ثم في إقرار نمط حياته. وقد
كان لهذه العودة إلى التركيز على الفرد أثر هام في نشوء الليبرالية بمعناها
الحديث.
الليبرالية في العصور الحديثة:
إن الليبرالية في الفكر السياسي
الغربي الحديث نشأت وتطورت في القرن السابع عشر، وذلك على الرغم من أن لفظتي
ليبرالي وليبرالية لم تكونا متداولتين قبل بداية القرن التاسع عشر. ونجد الكثير من
الأفكار والمبادئ الليبرالية في فلسفة جون لوك السياسية، فهو أول الفلاسفة
الليبراليين ولعلع أهمهم جميعا. لكن امتياز لوك عن غيره من الفلاسفة الليبراليين
يرجع إلى أنه نجح في التعبير عن الأفكار المناسبة في الوقت المناسب، فهو ليس
بالضرورة أقواهم حجة أو أكثرهم ابداعا. وكما أن أهمية لوك جاءت نتيجة نجاحه في أن
يعكس في فلسفته السياسية مشاغل عصره وقضاياه، فإن التصاق هذا الفيلسوف بظروف عصره
الاجتماعية والسياسية والاقتصادية جعل الكثير من الليبراليين الذين جاءوا بعده
يرفضون بعض آرائه أو على الأقل تعديلها لأنهم واجهوا ظروفا تاريخية تختلف عن
ظروفه. أضف إلى ذلك أن رغبة لوك في أن يكون فكره حاويا كل عصره أثقل فلسفته
السياسية بتناقضات جمة.
وفي ما يأتي سنعمد إلى عرض أهم ملامح
الليبرالية كما نجدها في فلسفة لوك السياسية. وقد يصح أن نسمي هذا النوع من
الليبرالية، الليبرالية الكلاسيكية. ومن ثم نتناول بعض التيارات الليبرالية التي
جاءت استمرارا لليبرالية لوك الكلاسيكية، وبعض التيارات التي عارضت هذه الليبرالية
أو عدلتها تعديلا أساسيا.
جون لوك والصراع
الدستوري بانكلترا:
يرى كثير من المؤرخين أن تاريخ إنكلترا
السياسي في القرن السابع عشر، هو إلى مدى بعيد تاريخ الصراع بين الملكية الساعية
إلى الحفاظ على ما اعتبرته حقها المطلق في الحكم وبين القوى البرلمانية المصرة على
الحد من سلطة الملوك وإخضاع هذا السلطة لحكم الدستور. ومما جعل هذا الصراع، يمتد
ويعنف هو تداخل النزاعات الدينية معه وتباين ولاءات المتصارعين المذهبية. وقد رفض
البرلمانيون ادعاء الملك أن حقه في الحكم قد منحه إياه خالق الكون وأنه، أي الملك،
يحكم بمشيئة الله. لذلك لم يعتبر الحاكم نفسه مسؤولا تجاه الشعب المحكوم. أما البرلمانيون
فقد رفضوا هذا المنطق وقاوموا دعاته. ويصح ان نعتبر فلسفة لوك السياسية محاولة
لتنظير موقف البرلمانيين وإعطائه بعدا فلسفيا وجعل علاقة المواطن بالسلطة الحاكمة
علاقة تعاقدية أو بتعبير أصح علاقة ائتمانية. فإذا نحن افترضنا مع لوك، أن للإنسان حقوقا طبيعية في الحرية والكرامة، وجب
علينا أن نقر بأن نسق الحكم الوحيد الذي لا يتعارض مع هذا الافتراض هو الحكم
المبني على رضى المحكوم وموافقته. واذا كان الشعب مصدر السلطة الشرعية الوحيد يصبح
الحكم مسألة أمانة لا مسألة حق، سواء ادعى الحاكم أن هذا الحق متوارث عن الأسلاف
أو ادعى أنه هبة من عند الله. ويصبح الحكم دائما حكما مشروطا ويصبح الحاكم خاضعا
لمحاسبة المحكوم على نحو مستمر. ويسهل، من الناحية النظرية على الأقل، تسويغ
الثورة على الحاكم أو خلعه إن هو أساء استعمال الحكم الذي وضعه الشعب أمانة في
عنقه. وقد كان هذا بالفعل مصير الملك جيمس الثاني الذي خلع عن العرش عام 1688 في
إثر الثورة البيضاء الشهيرة المعروفة بالثورة المجيدة Glorious Revolution.
وأهم ما في هذا كله بالنسبة إلى
تكوين الفكر السياسي الليبرالي وتطوره هو المسوغ الذي يعطيه لوك للدولة ولحقها في
الوجود، وهذا أمر يتعدى مجرد دعم فريق (البرلمان) ضد فريق آخر (الملك) في تنازعهما
على الحكم، ليقدم نظرية حول طبيعة الدولة وحدود سلطتها. واذا استثنينا نفرا قليلا
من المفكرين الذين طرحوا فكرة مجتمع لا دولة، إيمانا منهم بأن التعاون الطوعي بين
الناس يغنينا عن الدولة، نجد أن الأغلبية الساحقة من المفكرين السياسيين اعتبروا
وجود الدولة ضروريا. لكن هذا الحد الأدنى من الاتفاق لا يكفي لأن الاختلافات تظهر
بوضوح وحدة عندما يحاول هؤلاء المفكرون تحديد طبيعة الدولة ورسم حدود سلطته. فما
هو موقف لوك من هذا الموضوع؟
إن وصف لوك لوضع الناس في ما سماه
الحالة الطبيعية state of nature، التي
تسبق قيام الدولة، يجعل القارئ يتساءل عن جدوى مقايضة هذ المجتمع اللاسياسي
بالمجتمع السياسي. ذلك أن الحالة الطبيعية تحكمها قوانين طبيعية، Natural Laws، تحدد الحقوق والواجبات بمعزل عن المشترع البشري. لكن الصعوبات تظهر
على مستوى القضاء والتنفيذ والإدارة. فمن غير المستحسن أن يكون المرء حكما وخصما
في ما يخصه من الأمور في الوقت نفسه. ناهيك عن ضرورة توزيع المهمات وتنظيم أمور
المجتمع المشتركة وإدارة شؤونه وتنفيذ الأحكام وتأمين حماية الأفراد وممتلكاتهم
سواء أكان المعتدي من الداخل أم من الخارج. ولو كانت هذه الأمور تنتظم من تلقاء
نفسها أو تتوافر دونما حاجة إلى الدولة أو أجهزتها، لما كان لوجود الدولة من مسوغ.
من هنا نشأ في الفكر السياسي الليبرالي مفهوم "دولة الحد الأدنى".
فالحاجة إلى الدولة حاجة عملية فقط، ولا يجوز أن توسع نطاق سلطتها خارج الحدود
التي تفرضها هذه الضرورات العملية.
هذا الموقف من الدولة يبرز خاصَّة
مهمة لما قد يسمى المزاج الليبرالي أو الذهنية الليبرالية. فكأن الليبرالي يفترض
أن هنالك علاقة عكسية بين سلطة الدولة وحرية الفرد: فكلما ازدادت سلطة الدولة
وتوسع نطاقها نقصت حريات الفرد وضاق نطاقها. لذلك فإن تعلق الليبرالي بالحرية
الفردية وحرصه عليها يجعلانه متخوفا من تزايد سلطة الدولة. وبالرغم من أن توماس
هوبز، 1588-1679، جعل الفرد ركيزة نظامه السياسي واتبع منهجية فردية في بناء
فلسفته السياسية، فإنه لم يكن ليبرالي المزاج، لأنه تخوفه من الفوضى فاق تعلقه
بالحرية وطغى عليه. فالذهنية الهوبزية المحفظة تفترض أن هناك علاقة عكسية بين
الحرية والاستقرار. أما الليبرالي فهو أكثر طموحا من هوبز وأكثر تفاؤلا، وهو يحاول
أن يجد نوعا من التوازن بين الحرية والنظام. ولعل إسهام لوك الأساسي في تطور الفكر
الليبرالي هو إصراره على إمكانية ائتمان المواطن على قدر كبير من الحريات دون أن
يهدد ذلك، بالضرورة، استقرار المجتمع وأمنه. من هنا تشديده على مبدأ "حكم
القانون لا حكم الفرد". أما هوبز فقد أعطى الحاكم سلطة شبه مطلقة نتيجة
قناعته أنه بدون هذه السلطة المطلقة ل نظم ولا استقرار ولا أمان. ونجد في المقابل
أن الليبراليين، أمثال لوك ومونتسكيو، 1689-1755، اعتبروا السلطة المطلقة غير
المنضبطة بحكم القانون انضباطا واضحا ومبدئيا هي المشكلة وليست الحل، فالسلطة، كما
قال اللورد اكتون، تفسد، والسلطة المطلقة تفسد إفسادا مطلقا.
ومشكلة سوء استعمال السلطة قديمة
قدم الحضارة البشرية، وقد ظهرت مع ظهور المجتمعات السياسية. فإذا كان وجود الدولة
ضروريا، فإن وجود السلطة يغدو ضروريا. وتفضي الضرورة العملية بأن يمارس السلطة
أشخاص معينون لأنه من الصعب أن يمارسها الناس جميعا. ومتى استقرت السلطة في أيدي
أولئك الأشخاص فما الذي يحول دون سوء استعمالهم لها؟ وقد وعى المفكرون السياسيون
هذه المشكلة وأدركوا أبعادها منذ البداية، كما أن بعضهم قد اقترح لها حلولا.
فأفلاطون مثلا يرى أن المشكلة تحل إذا اجتمعت الملكية (السلطة) والفلسفة (المعرفة
والحكمة) في شخص واحد، فتكون فضائل الفيلسوف خير واق للناس من شرور السلطة غير
المنضبطة بالمعرفة الحقة والأخلاق السوية. أما هوبز فقد وجد الحل الأفلاطوني مثاليا
وغير مجد ورفض معادلة أفلاطون القائلة بأن السلطة مع المعرفة تعطيان أساس محتمع
عادل، مشددا على أن السلطة وحدها هي العنصر الأهم في بناء المجتمع المستقر.
والواقع أن هوبز لم يحل مشكلة سوء استعمال السلطة، فمفهوم العاهل sovereign عنده هو بمثابة إقرار بأن لا حل لهذه المشكلة. فهو يرى أن مجتمعا
فيه سلطة يساء استعمالها هو افضل من مجتمع لا سلطة فيه على الإطلاق.
أما الحل الليبرالي الذي وضعه لوك
وطوره مونتسكيو فيرفض حصر الخيارات بخياري هوبز وهما أولا: مجتمع لا سلطة فيه
وثانيا: مجتمع يساء فيه استعمال السلطة. وهذا الحل يرتكز على مبدأ حكم القانون
وسيادته، وعلى اصلاح مؤسسات المجتمع وتطويرها. ويرى دعاة هذا الحل أن من الخطأ
التركيز على الحاكم المثالي الذي يحكم بالعدل والانصاف، ومن الأصح أن نركز على
اشتراع قوانين واستحداث مؤسسات تقلل من احتمال سوء استعمال مسؤولياتهم ويفترض هذا
الحل ان اغراءات سوء استعمال السلطة ستظل دائما موجودة، ولكنه يقلل من احتمال
اساءة استعمالها فعلا. وحكم القانون يعني أن المرجع الأخير لم يعد ارادة فرد ما،
أو مجموعَة أفراد، بل أصبح مبادئ اتفق عليها ودخلت في بنية المجتمع وصلبه.
صحيح أن المناداة بمبادئ حقوق
الإنسان الطبيعية، وجعل أساس حق الحكم مشروطا برضى المواطن المحكوم، تخلق مناخا
يشجع الشعوب المقهورة على الثورة على حكامها والاطاحة بهم، لكن نموذج لوك للتغيير
اصلاحي وتدرجي وليس ثوريا. وتبقى التجربة الانكليزية التي تلت ثورة 1688 أقرب إلى
فلسفته السياسية من الثورة الفرنسية عام 1789 وما تلاها. فهو قد فضل اعتماد مبدأ
الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية (وإن يكن لوك، في الواقع، ميز
بين التشريعية والتنفيذية فقط) وجعل هذه
السلطات تمارس رقابة، بعضها على البعض الآخر، تؤدي إلى التوازن بينها. أما
الثورة فهي للحالات المستعصية. وفي الواقع، فإن كثيرا من الليبراليين يعتبرون نجاح
الاصلاح الداخلي التدرجي الذي يقي المجتمع خضات الثورات الجارفة العنيفة مقياس
نجاح الليبرالية كأساس للحكم والاصلاح.
الليبرالية وحكم الأكثرية:
وقد نادى لوك بحق الأكثرية في الحكم لكنه لم يع وعيا
كافيا نتائج هذا المبدأ. ذلك لأن همه الأساسي كان الحد من سلطة الملك، وقد تصور أن
المشكلة تحل بانتقال السلطة إلى الشعب أو من يمثله، وغاب عن ذهنه أن أكثرية الشعب
بإمكانها أن تمارس طغيانها الخاص. وهذا الطغيان الجديد سيصبح، كما سنرى، هاجس بعض
ليبراليي القرن التاسع عشر أمثال الكسيس دي توكفيل، 1805-1859، وجون مل. فهل يكفي
أن ننادي بالتسامح (كما فعل لوك كردة فعل على الحروب الدينية المرهقة والشرسة التي
خاضها أبناء وطنه) لتتعظ الأكثرية فلا تتعدى على حقوق الأقليات؟ ثم ان حق التصويت
بقي محصورا بعدد قليل نسبيا يقتصر على مالكي الأرض من الرجال، فهل يمثل هؤلاء
الشعب؟
يقودنا التساؤل إلى اعتبار اخير يؤكد على مدى ارتباط فكر
لوك السياسي بنشأة الليبرالية وتطورها. فكما رأينا يعتبر لوك أن حماية الفرد
وحقوقه من أهم واجبات الدولة، كما أنه يعتبر حق الملكية الخاصة من أهم واجبات
الدولة، كما أنه يعتبر حق الملكية الخاصة من أهم حقوق الفرد. من هنا تصبح حماية
هذا الحق من واجبات الدولة الأساسية. كما أن لوك في الجزء الذي يعالج فيه موضوع
الملكية في المقالة الثانية في الحكم المدني يسمح للمالك أن يقايض ما يشاء من نتاج
أرضه (كالتفاح مثلا) بالذهب أو الفضة أو العملة. وكان لوك في البداية قد اشترط أن
لا يحتفظ المرء بمقدار من نتاج أرضه يفوق ما يستطيع أن يستهلكه هو وعائلته قبل أن
يفسد النتاج. وهذا الشرط قد يوحي بأن نسبة الملكية ستقررها الحاجة، مما قد يؤدي
إلى نوع من العدالة في التوزيع أو المساواة الاقتصادية، ولكن ادخال مواد لا تهترئ
ولا تفسد في عملية المقايضة يفتح الباب على مصراعيه أمام ظهور طبقات غير متساوية
اقتصاديا.
الليبرالية الاقتصادية وآدم سميث:
والترجمة الواضحة على الصعيد الاقتصادي لليبرالية لوك
الكلاسيكية، نجدها في النظرية الاقتصادية الكلاسيكية التي يمثلها آدم سميث،
1723-1790، وأتباعه. ففي فكر سميث السياسي والاقتصادي تبدو الخصائص الآتية واضحة:
1-
التزام شبه مطلق بالحريات الفردية وخصوصا
الحرية الاقتصادية،
2-
طغيان النزعة الفردية الى حد تصبح معه تلبية
حاجات الفرد ورغباته هاجس الليبرالي الأهم،
3-
حصر مهمة الدولة بحماية حقوق المواطن، حقوقا
حق الملكية الفردية، وبتسهيل تعامله مع الآخرين، وبمنع الدولة من التدخل في أي شأن
آخر.
وما يميز سميث عن
لوك عتباره الاقتصاد علما مستقلا عن باقي العلوم الاجتماعية وتنسيقه مبادئ هذا
العلم المستحدث تنسيقا واضحا. وقد افترض سميث أن المحرك الوحيد للانسان والدافع
الذي يكمن وراء كل تصرفاته الطوعية هما الرغبة في خدمة مصالحه وإرضاء ذاته. وسميث
هنا يشارك هوبز نظرته إلى الانسان ككائن أناني. واعتبر سميث أن الاقتصاد تنظمه
قوانينه الخاصة، كقانون العرض والطلب، وقوانين الطبيعة الانسانية. وكانت لدى سميث
قناعة تامة أن هذه القوانين إذا ما سمح لها بأن تأخذ مجراها دون تدخل من الدولة،
تقوم بمهمتها على أكمل وجه فتخدم مصلحة المجتمع ككل وتخفف رغبات الفرد. وقد يبدو
أن هذه القوانين جاءت نتيجة تصميم مصمم أو أنها تشكل نظاما غائيا مُتعَمّدًا،
ولكنها ليست كذلك، أو على الأقل هذه هي قناعة سميث. فالخباز والجزار عندما يؤمنان
الخبز واللحم لموائدنا لا يفعلان ذلك حبا بالإنسانية أو حرصا على صحتنا بل بدافع
مصالحهما الخاصة وحبا بالربح. والمستهلك بدوره لا يشتري السلع المتوافرة في السوق
حرصا على مصلحة المنتج أو التاجر بل لأن عنده الرغبة، ولديه المقدرة، على شراء ما
يشتري. إذن فأفضل خدمة نقدمها إلى المجتمع هي تسهيلنا للأفراد سعيهم إلى خدمة
مصالحهم الخاصة. وهكذا فإن لعبة المصالح الخاصة هذه، إن لم يعقها تدخل خارجي
مفتعل. تؤمن حاجات الجميع وتخدم المصلحة العامة وكأن هناك يدً خفية غير مرئية،
تحدد الأدوات وتنسق الحركات كي يسير كل شيء على ما يرام. وعلى الدولة أن تترك هذه
اللعبة تأخذ مجراها فلا تتدخل باسم المصلحة العامة أو العدالة أو المساوة فتمتلك وسائل
الانتاج أو تحدد كمياته أو أسعاره. وهكذا أدخل سميث مبدأ الاقتصاد الحر (تنافس حر
في سوق حرة) في مفهوم الليبرالية.
لقد لاحظنا كم هي وثيقة العلاقة بين فكر
لوك السياسي وأحداث عصره، خصوصا ثورة عام 1688 وقد يكون من المفيد أن نذكر أهم
الاحداث التاريخية الأخرى التي أثرت في تطور الفكر الليبرالي. فالثورة الأمريكية،
1776 جاءت على الأقل من الناحية الفكرية، امتدادا لفلسفة لوك السياسية. والثورة
الفرنسية 1789، مهد لها فلاسفة ومفكرون ليبراليون على الإجمال أمثال رسو وفولتير
وجماعة الانسيكلوبيديا. والطريقة التي ترجمت بها الثورة الفرنسية إرادة الشعب
وكيفية ممارستها الحرية اضطرتا الكثيرين من الليبراليين الى إعادة النظر في فهمهم
للديموقراطية والحرية. كما أن الطريقة التي مارست بها الأكثريات الديمقراطية حقها
في الحكم أقلقت كثيرا من الليبراليين أمثال بنيامين كونستانت، 1767-1830، ودي
توكفيل ومل. ثم إن الثورة الصناعية التي ابتدأت في النصف الثاني من القرن الثامن
عشر وبلغت أوجها في النصف الأول من القرن التاسع عشر غير كل المقاييس. وقد استفادت
الطبقات الوسطى الصاعدة من الثورة الصناعية ومن الحرية الاقتصادية لتسيطر على
اقتصاد الدول الصناعية وسياستها ومن ثم على قسم كبير من بقية دول العالم عن طريق
الاستعمار.
وعلى الصعيد الفلسفي اضطر المفكر الليبرالي
الى محاولة تحديد معنى الحرية وعلاقتها بقيم أخرى كالمساواة والعدالة والسعادة.
وإذا اعتبرنا أن الليبرالي ملزم بإعطاء الحرية أهمية قصوى يصح لنا أن
نتساءل عن مصير القيم والفضائل الأخرى التي تدخل عادة في جملة المفاهيم والقيم
التي تحدد ولاءات المفكر. فهل أن الليبرالي الذي يضع الحرية في المرتبة العليا من
سلم أولياته مستعد أن يضحي بالمساواة بالعدالة أو بالسعادة في سبيل أن تبقى
الحرية؟ ويبقى الحلم الجميل أن نظل أحرارا في مجتمع تعمه المساواة والعدالة
والحرية. ومن البديهي أن هذا الحلم هو حلم الجميع. فالليبراليون لا يحتكرون
حب الحرية والاهتمام بها. فالخلاف عادة هو حول معنى الحرية، وحول تحديد الظروف
الملائمة لازدهارها وممارستها، وحول تحديد موقعها في سلم أولياتنا وعلاقتها بما
نُجِلُّ من قيم أخرى. فالمفكر الماركسي، مثلا، يعتبر الحرية في ظل الأنظمة الليبرالية-الرأسمالية
حرية مزيفة وعنده أن التحرر الفعلي والأصيل يتحقق في اطار المجتمع اللاطبقي حيث
الانسان سيد نفسه فلا تستغل طبقةٌ طبقةً أخرى، ولا يحتّم عليه انتماؤه الطبقي أن
يكون مستغَلا أو مستغِلا.
الحرية كركن من
أركان الليبرالية:
إذن كيف نحدد مفهوم الحرية؟ يجب الإشارة أولا إلى أن
اهتمامنا ليس بإشكالية حرية الإرادة بمعناها الميتافيزيقي، مع الاعتراف بصعوبة
التغاضي عن هذه الإشكالية أو فصلها عن مفهوم الحرية في إطاره السياسي والاجتماعي
والاقتصادي الذي هو محور اهتمامنا حاليا. لقد عرّف هوبز الحرية بأنها غياب العوائق
الخارجية التي تحد من قدرة الانسان على أن يفعل ما يشاء. وهذا التعريف هو في
الواقع أساس ما سماه الليبرالي المعاصر ايزيا برلين "المفهوم السلبي"
للحرية. وإذا ما اعتمدنا هذا التعريف السلبي للحرية يصبح مقياس نسبة الحرية
السائدة في مجتمع معين هو العوائق التي تضعها السلطة السياسية (الدولة وأجهزتها)
وتمنع بواسطتها المواطن من أن يفعل ما يشاء. فإذا ازدادت هذه العوائق أو الموانع
قلت الحرية، وإذا قلت العوائق أو الموانع ازدادت الحرية. فإذا لم تمنع السلطة
المواطنين من التعبير عن آرائهم على النحو الذي يريدون، وإذا أمنت للمواطن الحماية
من سواه من المواطنين الذين قد تسول لهم أنفسهم منعه حق التعبير عن رأيه، يحق لنا
أن نستنتج أن حرية التعبير عن الرأي متوافرة في المجتمع. وإذا أخذنا باقي الحريات
كحرية العبادة والتجارة والتنقل والاقتراع الى آخر ما هنالك من حريات ووجدنا أن لا
عوائق تمنع المواطن من ممارسة هذه الحريات، نستطيع أن نجزم أن المجتمع هو مجتمع
حر.
ولكن لنفترض أن الأكثرية الساحقة في هذا
المجتمع لا رأي لديها لتعبر عنه وأن من لديه رأيا ما لا يبالي بالتعبير عنه؟
ولنفترض أن هذه الأكثرية لا تقيم للدين شأنا والذين يبدون اهتماما بالدين يهتمون
بقشوره ومظاهره فقط؟ ولنفترض أن هذه الأكثرية في معظمها لا تستفيد من بقية الحريات
المتوافرة لها. فهل يصح أن نقول بعد هذا كله أن مجتمعها مجتمع حر؟
يبرز هنا مفهوم
الحرية الآخر الذي سماه برلين "المفهوم الإيجابي". ويصر دعاة هذا
المفهوم على أن غياب العوائق الخارجية غير كاف لوجود الحرية. فإذا كنا عبيدا
لشهواتنا فنحن لسنا أحرارا كما يذكرنا روسو الذي يصر على أن الحرية الحقة - الحرية
الخُلقية كما يسميها- هي أن نطيع القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا. ومهم جدا
أن نتذكر أن الإرادة التي تشترع هذه القوانين ليست ارادة الفرد الخاصة التي تخضع
للرغبات والأهواء الشخصية، بل هي ارادته الخلقية المعيارية التي تعبر عنها الارادة
العامة. إذن كي نكون احرارا علينا ان نريد ما يجب أن نريد، واذا أردنا غير ذلك يحق
للآخرين، باسم الارادة العامة، اجبارنا على أن نكون أحرارا حسب تعبير روسو الشهير.
كيف يمكننا في هذه
الحال أن نحدد ما تقره الارادة العامة وما لا تقرّه؟ إن جواب روسو عن هذا السؤال
المهم معقد جدا ولن نتطرق إليه. ولكن دعاة الديموقراطية أجابوا بأن الأكثرية هي
التي تقرر وتشترع وتمسك بزمام السلطة. ودعاة الحرية السلبية اهتموا بحماية الفرد
من الأذى الذي قد يجيز الآخرون لأنفسهم الحاقه به، فتصبح مهمة القانون حماية الفرد
من الآخرين، بدل التشديد على حق الآخرين في إجبار الفرد على أن يكون حرا. وهنا
يبرز التصادم بين الليبرالية الكلاسيكية والديمقراطية. فلا يكفي أن نطلق
شعار "الحرية الفردية في ظل سيادة القانون" الذي هو بحق الشعار الأشمل
الذي ينتظم تحت لوائه معظم المفكرين الليبراليين، بل على الليبراليين
أن تفقوا على تحديد مفهومي الحرية والقانون. والتخوف هنا هو من أن يؤدي وضع
القانون في يد الأكثرية الديموقراطية إلى تقلص نطاق الحرية الفردية وإعظام شأن
الدولة وسلطتها. وهذا التخوف يكون في غير محله إذا لم تتعارض إرادة الفرد ومصالحه
مع إرادة الأكثرية ومصالحها. فالفردية عند آدم سميث مثلا ليست مشكلة لأنه كان
مقتنعا بوجود تناسق جوهري بين منفعة الفرد والمنفعة العامة. أما إذا اعترفنا
بإخفاق النموذج السميثي وبضرورة تدخل الدولة، ولو على نحو محدود، لتنظيم الحياة
الاقتصادية ولتوفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة الكريمة للطبقات الدنيا
اقتصاديا، فإنه يجب علينا اعطاء الدول وأجهزتها دورا يتعارض مع الرؤية
الليبرالية للمجتمع ولكيفية إدارة شؤونه.
بين الليبرالية
والديموقراطية:
وبعد الثورة الفرنسية، وخصوصا في القرن
التاسع عشر، طعّمت الليبرالية بالديمقراطية. وقد برزت محاولة التوفيق بين
النزعتين (الليبرالية والديمقراطية) في الفكر السياسي الليبرالي في
ذلك القرن، وفي فلسفة جون مل السياسية دليل واضح على هذا. فقد أدرك مل أن مشكلة
تسلط الملوك، وان حُلَّت تاريخيا بتجريدهم من صلاحياتهم أو بقطع رؤوسهم، تعود
وتظهر بشكل مشكلة طغيان الأكثرية أو من يمثلها في النظام الديمقراطي. والحل
الدستوري (عبر القوانين واصلاح المؤسسات وانشاء المحاكم العليا وتعدد الأكثريات من
خلال النسق التعاقبي للانتخابات الخ ...) لا يحل المشكلة كليا. فحتى لو تأكدنا أن
الديمقراطية دستورية، يبقى، في نهاية المطاف، الدستور وتقرير أحكامه في يد
الأكثرية. وقد أدرك توماس جيفرسون، 1743-1826، هذه الحقيقة قبل مل، وتوكفيل،
وتوماس جرين، 1836-1882، وكونستانت وغيرهم ممن أدركوا طبيعة هذه المشكلة وأبعادها.
ففي نص القانون الذي يحمي حرية العبادة (كتبه جيفرسون عام 1779 وصدقه المجلس
الاشتراعي لولاية فرجينيا في عام 1786) ورد في الفقرة الأخيرة ما معناه: "نحن
ندرك في هذا المجلس الذي انتخبه الشعب لاشتراع القوانين أن لا سلطة لنا على
المجالس اللاحقة التي سوف تنتخب بعدنا ويكون لها صلاحية قانونية، ولا نستطيع أن
نجعل هذا القانون الذي اشترعناه اليوم غير قابل للنقض في المستقبل وان نحن فعلنا
ذلك فلا يكون لإعلاننا هذا صفة قانونية ملزمة. ولكننا نعلن أن كل من ينقض هذا
القانون أو يلغيه أو يحد منه إنما ينتهك حقوقا للإنسان طبيعية". وقول جيفرسون
هذا يشير بوضوح إلى أنه أدرك أن الضمانة لا تكون في النهاية الا بوعي المواطنين
وبحكمتهم وأخلاقيتهم. ولم يجد جيفرسون في يده حيلة سوى العودة إلى مفهوم حقوق
الإنسان الطبيعية. وإذا كانت قدسية الفرد وحقوقه من جوهر الليبرالية، فإن
المساس بهذه الحقوق يعني إخفاق الليبرالية وإفلاسها. فرسالة الليبرالية،
إذا كان لها من رسالة؟ هي حماية الفرد والدفاع عن سيادته وصيانة كرامته. فإذا ضاعت
حقوق الفرد، ضاعت الليبرالية. وما جدوى أن نسمي حقوق الفرد حقوقا طبيعية
إذا سمحنا لإرادة الآخرين بأن تلغي هذه الحقوق؟ وإذا كان الآخرون يشكلون الأكثرية
فليس في ذلك كما قال كونستانت تخفيف للجرم ولا عزاء للضحية.
وصعوبة حل هذه المشكلة تعود إلى اختلاف في
أهداف الليبرالية والديمقراطية. فالليبرالية مهتمة برسم حدود واضحة
لسلطة الدولة على الفرد واعطاء الفرد أكبر قدر ممكن من الحرية. أما الديمقراطية
فتحدد مركز السلطة ومصدرها. وهذا لا يعني أن الليبرالية والديمقراطية
متناقضتان بالضرورة، لكن إمكانية تعارضهما واردة نظريا وعمليا. وقد حاول جون مل في
مقالته الشهيرة حول الحرية أن يجد معادلة توفق بين الليبرالية والديمقراطية
فلم يسمح بتقييد حرية فرد ما إلا لمنع ضرر واضح يلحق بالآخرين نتيجة تصرف هذا
الفرد. وقد ميز مل بين الحيز الخاص والحيز العام معطيا الفرد حرية مطلقة في الحيز
الأول وسامحا للدولة بأن تتدخل فقط في ما يتعلق بالحيز الثاني. وتصرف الفرد يتعدى
الحيز الخاص ويصبح شأنا عاما عندما يمس هذا التصرف الآخرين ويلحق الضرر بهم. وقد
أدرك مل أن الغزو غير المشروع للحيز الخاص قد يكون مصدره ليس الدولة فحسب إنما
المجتمع بشكل عام. وكان لدى مل قناعة بأن المواطن الذي ينشأ في جو من الحرية
ويتربى على احترام حقوق الآخرين ويتقبل بانفتاح ونضوج الآراء المخالفة لمعتقداته
ويطور شخصيته ويحقق ذاته ويخلق مناخا يساعد الآخرين على النمو والخلق والابداع، هو
الضمانة المثلى للديمقراطية والدرع التي تقي المجتمع شر طغيان الأكثرية أو أي شكل
آخر من الاستبداد. وقد خصص مل قسما كبيرا من مقالته للدفاع عن حرية الفكر والتعبير
والنقاش والمعتقد، وإبراز حسنات التعددية والتنوع والتميز خوفا من أن ينزلق
المجتمع الديمقراطي نحو الرتابة والتقليد والتفاهة والانسياق الأعمى والانغلاق
والتحجر.
وإذا قارنا مقالة جون مل حول الحرية
بمقالته حول النفعية، نجد أن تشديده على أهمية الحرية وقيمتها في المقالة الأولى
يكاد يجعل الحرية غاية بحد ذاتها بدل أن تكون قيمتها بنسبة منفعتها. فما الذي يعطي
الحرية قيمتها وكيف نسوغ هذا التركيز على أهمية الحرية الذي يقارب أحيانا حد
الهوس؟ والمنفعي يحاول أن يعطي جوابا عن هذا السؤال يرتكز على قواعد علمية
تجريبية. أما النوع الآخر من الإجابة عن هذا السؤال فمرتكزه مبدئي أو معياري. فإذا
نحن درسنا طبيعة الإنسان وقوانين علم النفس والاجتماع واستنتجنا أن لا خلق ولا
عفوية ولا ابداع ولا انتاج ولا سعادة بلا حرية، يكون التزامنا بالحرية مبنيا على
ما هو جائز أو محتمل. وليس باستطاعة الليبرالي المنفعي أن يبني ركائز
التزامه بالحرية على غير هذه الركائز أو ما يشابهها. من هنا اذا نحن اعتبرنا
الالتزام المبدئي المطلق بالحرية مقياس الليبرالية يصح أن نعتبر كانط
1779-1831، أكثر الفلاسفة ليبرالية. فقيمة الحرية عند كانط لا تكمن في كونها شرطا
من شروط السعادو. وإذا ثبت أن المفتش الأكبر في رواية دوستويفسكي الأخوة كرامازوف
قد فهم طبيعة الانسان على حقيقتها، فهل يستوجب ذلك أن نتخلى عن الحرية كي لا نصبح
أشقياء؟ واذا كانت السعادة هي غايتنا القصوى وجب علينا أن نجيب عن هذا السؤال
بالإيجاب. وفي حال تفاوت مقدرة الأفراد على تحمل عبء الحرية فإن كواهل النخبة
القوية تتحمل القسم الأكبر من المسؤولية، وتتولى هذه النخبة تأمين قدر من حاجات
الجماهير الضعيفة الجاهلة تماما كما يفعل المفتش الأكبر في رواية دوستويفسكي.
والواقع أن الليبراليين
الديمقراطيين من بركليس حتى مل افترضوا مقدرة الجميع ورغبتهم في الاسهام على نحو
فعال في الحياة السياسية وفي إدارة شؤونهم العامة. وهذا الافتراض يبدو واضحا في
خطبة بركليس التأبينية وفي مقالة مل حول الحرية وقد أدرك مفكرون ديوقراطيون كثيرون
أهمية هذه الفرضية فأبدوا اهتماما خاصا بمفهوم الديموقراطية التشاركية، خوفا من
بروز طبقة أوصياء يملؤون الفراغ الذي أحدثه انسحاب المواطن العادي من الحياة
العامة ويحكمون الشعب باسم الديموقراطية في ظل شعار الحرية.
وإلى جانب افتراض الليبرالي أن في
مقدور المواطن العادي المشاركة في الحياة السياسية فهو يفترض كذلك مقدرة الجميع
ورغبتهم في التنافس على الصعيد الاقتصادي بنسب نجاح متساوية. واذا كانت هذه
الفرضية خاطئة يضطر المفكر إلى أن يعود إلى سلم أولوياته ويختار بين الحرية
والمساواة. فالحرية مع تفاوت في الكفايات تؤدي إلى تفاوت المستوى الاقتصادي.
والاقتصاد السميثي الحر الملتزم بمبدأ الملكية الخاصة مضافا الى الثورة الصناعية
التي طورت وسائل الانتاج مع تفاوت الكفايات الفردية تولد كلها مجتمعا تتجلى فيه
الطبقية على نحو واضح ويجعل من الليبرالية ايديولوجية البرجوازية الحاكمة.
ذلك أن الطبقة المستفيدة ستدافع عن امتيازاتها ومصالحها وتتوسل الحرية لتعطي نفسها
صفة شرعية.
الليبرالية في الفكر المعاصر:
والليبرالية
كما تظهر في الفكر السياسي المعاصر تتمثل في نزعتين. فالنزعة الأولى تحرص على أن
يبقى للعدالة وللمساواة شأن هام دون أن يطغى عليهما التزامنا بالحرية. وهذه النزعة
تسمح للدولة بأن تتدخل تدخلا ملحوظا لتحقيق هذه الغاية. والنزعة الثانية تصر على
إعطاء الدولة دورا لا يتعدى الحد الأدنى الذي سمح به لوك. وتمثل آراء الفيلسوف
الأمريكي المعاصر جون رولز النزعة الأولى، بينما تمثل آراء زميله في جامعة هارفرد
الفيلسوف روبرت نوزيك النزعة الثانية. وقد بدا تأثير كانط وروسو واضحا في فلسفة
رولز بينما جاءت فلسفة نوزيك امتدادًا لفلسفة لوك السياسية.
مصادر ومراجع
Bentham, Jeremy,
An introduction to the principles of Morals and Legislation, New york,
macmillan, 1948.
Hayek, Von F.A.,
The Constitution of Liberty, Routledge, 1960.
Kant, Immanuel, Kant’s
political writings, Hans Reiss, ed., Cambridge University Press, 1970.
Locke, John, Two
treatises of government, peter laslett, ed., Cambridge University, Press,
1960, first ed, 1690.
Mill, John
Stwart, On Liberty, London, 1861.
Montesquieu,
Charles secondat Baron de, The Spirit of the Laws, Gonzague truc, 2vols,
Paris, collection des classiques Garnier.
Nozich, Robert, Anarchy,
state and Utopia, New York, 1974.
Rawls, John, A
theory of justice, Harvard University Pres, 1971.
Rousseau,
Gean-jacque, The Social Contract and discourse, trans, with an
introduction by G.D.H Cole, Dutton, new york, 1950.
Smith, Adam, An
Inquiry into th e Nature of the wealth of nations, Modern Library, new
york, 1937.
Tocquevile,
Alexis de, Democracy in America, Vintage Books, New York, 1958.
وضاح نصر
أترك تعليقا