قضت آرندت طفولتها في كونيجسبيرج Konigsberg، المركز الشهير في القرن الثامن عشر للتنوير اليهودي
الألماني، وبدأت سنواتها الجامعية من سنة 1924 إلى سنة 1929، في ماربيرج marburg
تحت إشراف " مارتين
هايدجر" وعالم اللاهوت "رودولف بولتمان"،
إن الفلسفة الوجودية لهايدجر وخصوصا تساؤلاته الراديكالية في علم الوجود وتركيزه
على الوجوديات، قد أثرت بصورة قاطعة على صياغاتها النظرية وأمدتها بالإطار العام
المرشد لعملها الأخير، وبعد أن قضت سنة في ماربيرج،
انتقلت أرندت سريعا إلى فرايبيرج،
حيث درست مع عالم الفينومينولوجيا (علم الظاهرات)،
إدموند هوسرل، ثم إلى هايدلبيرج
حيث كان كارل ياسبرز على وشك أن يبدأ مجلده الثالث: في
"الفلسفة"، إن إعجاب "ياسبرز"
وتقديره للإستكشافات السقراطية
وتركيزه الفلسفي على الحرية والمجتمع والتعددية والحوار، قد لعبت بشكل أساسي دورا
في تفكير أرندت كفلسفة مضادة لهايدجر، وفي عام
1928، أكملت رسالتها للدكتوراه عن مفهوم الحب عن القديس أوجستين.
وفي سنوات أفول الجمهورية الألمانية، بدأت
أرندت مشروع ما بعد الدكتوراه عن الرومانسية
الألمانية، وتزايد اهتمامها بمشكلة معاداة السامية والسيكولوجية الإجتماعية للاستيعاب اليهودي. إن قضية ماذا يعني ان تكون
دخيلا، محدثا أو منبوذا، لقد استكشفت بالتفصيل في " راهيل
فارنهاجن"، وفي كتاباتها الصهيونية الأخيرة. إن
انخراطها المتزايد في المنظمة الصهيونية الألمانية، بالتوازي مع نمو المعاداة
للسامية والقمع، أدى إلى اعتقالها واحتجازها القصير في سنة 1933. وبعد فترة قصيرة
من صعود هتلر إلى السلطة واحتراق الرايخستاج (مبنى
البرلمان الألماني)، غادرت ألمانية متوجهة إلى فرنسا، وفي سنة 1941، ومع تجسد
مدينة فيشي وما تلاه من اعتقال في معسكرات السجن الفرنسية المنفصلة، فقد هربت أرندت وزوجها "هاينريك بلوتشر" إلى الولايات المتحدة.
ومنذ أوائل الخمسينات وحتى وفاتها في
1979، قامت آرندت بالتدريس في جامعات متميزة
عديدة في الولايات المتحدة، وبالتوازي مع غيرها من الدارسين المهاجرين الألمان،
يمن فيهم "هانز مورجينثو"، و"فرانز
نيومان"، و"ليو شتراوس"، و"إيريك فولجين" والمنظرين
النقديين لمدرسة فرانكفورت: "تيودور أدورنو"،
و"ماكس هروكيمير' وهربيرت
ماكيوز"، لعبت آرندت
دورا رئيسا في إعادة صياغة معالجة النظرية السياسية في الثقافة الأكاديمية
الأمريكية، فكتابات آرندت في هذا الخصوص تتحدى
التصنيفات السهلة وتتميز بتفردها بعيدا عن تصنيفات كل من اليسار واليمين. فإحدى
السمات المميزة في تنظيرها السياسي هي رفضها تقريبا لكل المدارس الحديثة للتفكير
كنقاط انطلاق للبحث السياسي، وفضلت أن تتحول إلى الفلسفة الألمانية والتقاليد
الغربية للنظرية السياسية - وخصوصا أرسطو والقديس أوغسطين
وميكيافيللي وهوبر وروسو ودي توكفيل
وماركس- كدليل تهتدي به في تفكيرها، كما ذكرت في إحدى المرات، "في الفجوة بين
الماضي والمستقبل".
وقد كانت هناك على
الأقل أربعة موضوعات سياسية واضحة تهيمن على أعمال أرندت.
وتعكس كلها اهتمامها طوال حياتها لأن تستكشف معنى العمل الإنساني وشروطه أو
"الذات الفعالة" vita
Activa، الظواهر غير المسبوقة في
الدكتاتورية في العصر الحديث والحاجة إلى فهم شرورها، وهو الواجب النظري والمهم
العملية لإنقاذ السياسة من الإجتماع وفي وجه الأزمات
المعاصرة، وأهمية إعادة إحياء فهمنا للحرية كممارسة للإتصالات
تتضمن الحديث والفعل والتعددية، والتوجيه الذي يطرحه تراث الجمهوريين الأمريكيين
من أجل إيجاد نظام سياسي حر.
إن مؤلفها "أسس
التوتاليتارية" the Origins
of totalitarianism، قد أسس مكانتها
كمفكرة سياسية واجتماعية عظمى. لكن هذا العنوان مضلل. فلم يكن اهتمام أرندت منصبا على إجراء دراسة جينية للنظم الديكتاتورية في
القرن العشرين، لكنها قصدت بالأحرى أن تسبر غور المعنى التاريخي لما أشارت إليه
يوما على أنه "عناصر العار" في الحداثة - معاداة السامية والإستعمار والعنصرية- أما العنوان الإنجليزي " هموم عصرنا"
the burden of our
time فهو ينقل القصد النهائي ل "أرندت": اكتشاف العناصر الرئيسية في النازية والستالينية وتتبع آثارها وسبر الوقائع الإجتماعية
التي تبلورت إلى "الهيمنة الكلية". إن
الحجة الأساسية لهذا المشروع الطموح هي أنه لا يمكن لأي نظام دكتاتوري شمولي أن
ينجح دون إفشاء بيروقراطية الرعب وخصوصا على شكل معسكرات الاعتقال. ويزدحم الكتاب
بمجموعة أخرى من الموضوعات والقضايا، إلا أنها تبرز مدى اتساع مشروع أرندت: السيكولوجية الاجتماعية للجماهير والنخبة، نقد
القومية وحالة الـ "لا دولة" التي تؤدي إليها، مشكلة الحركات القومية
والاستعمار القاري، الأصول العرقية والبيروقراطية، الإيديولوجية والرعب. وعلى
الرغم من تنوع موضوعات كتاب "أسس التوتاليتارية"
وعدم تركيزه، فأنه كان يحمل الخصائص التي ستميز كل النصوص الأساسية اللاحقة لـ
"أرندت": فقد حاولت في هذه النصوص
توليد تفكيرنا عن ماذا يعني "أن نكون" في العالم، بدلا من شرح السلوك
الإنساني أو النظم الإجتماعية وتفسيرها بكيفية سببية
وبصورة علمية.
إن كتاب "أسس
التوتاليتارية" هو الذي أسس لشهرة "آرندت"، أما كتاب "الشرط الإنساني"
فهو الذي أمنها. إننا نرى تأثير هايدجر في تركيز الكتاب على الوجوديات، التي تصف
حالة أن تكون ذاتا فعالة: جهد، عمل وأداء. لكن الهدف من الشرط الإنساني هو هدف
مميز عند "أرندت": فهي تسع لاستعادة
أسبقية السياسة كأداء في العالم ومن ثم ضمان "سبب ومبرر وجود" الحرية.
وفي حكايتها لقصة كيف أن الأداء يندرج تحت فئة أكبر من الجهد والعمل في العالم
الحديث، فغن "أرندت" تعرض بالكامل
لانجذابها نحو التفكير بشروط التصنيفات المفاهيمية
المتداخلة. إنه فقط من خلال الأداء، أكثر الأنشطة
الإنسانية إيجازا إلى أقصى حد وشرطه الموازي – التعددية – يكشف البشر عن تميزهم
الفردي علنا، من خلال الأحاديث والأفعال المشتركة، ومن ثم تأكيد الحرية. وفي
التكييف "الهايدجري" (نسبة إلى هايدجر)، تضع
"أرندت" ضمنا تقاليد الفلسفة الغربية
( من أفلاطون إلى ماركس) في التحول الكارثي للذات الفعالة. لكن الجوهر الحقيقي لـ
كتاب "الشرط الإنساني"، وإن كان متشائما، يكمن في قوة كشفه عن
الاغتراب في العالم المعاصر، واحتفاله بالحرية، باعتبارها مجد الكشف عن الذات من
خلال الأحاديث والأفعال المشتركة في المجال العام.
إن الأفكار
السائدة في "الشرط الإنساني" عن السياسة باعتبارها غاية في حد ذاتها، وعن الحرية
باعتبارها تتشكل من مواطنين يشاركون سويا في الحقل العام، عادت للظهور في كتاب
"في الثورة"، حيث استخدمت "أرندت"
هذه الأفكار لأخذ الإجراء الخاص بالثورتين الأمريكية والفرنسية. وفيما ثبت أنه حجة
متناقضة إلى درجة بعيدة، زعمت أن الثورة الفرنسية قد خضعت ل "القضية
الاجتماعية" ومن ثم فهي قد أفسدت نفسها بفشلها في ان تجد مساحة عامة للعمل
والمساندة. وبجعل "الوفرة" هدفها بدلا من
الحرية، والتحول بعيدا عن الفقر بدلا من تأسيس ساحات عمل للقضاء عليه، فإن
الفرنسيين قد فشلوا في تأمين الحرية للمؤسسات ومعها فشلوا في الثورة الحقيقية.
وعلى العكس، فإن تقييم "أرندت" للثورة
الأمريكية، مع تقديرها لمؤسسيها الدستور الحر والأشكال الجمهورية للحكومة، أعلنت
الخبرة الأمريكية نجاحا لا يشوبه غموض، إن لم يكن نجاحا قاطعا. وفي الفصل الأخير،
حذرت "أرندت" من أن الأمريكيين
المعاصرين في خطر من فقد "الكنز" الذي تشير إليه تقاليدهم الثورية. وقد
كان هذا هو الموضوع الذي ظهر مرة أخرى في (كتاب) "أزمات
الجمهورية". وفي كتابها "في الثورة"، كما في كتاباتها
السابقة، نسجت "أرندت" بحذر في حكايتها
عن معنى السياسة ومصير الحرية في العالم الحديث. لكن مرة أخرى جرى تقييمها عن معنى
السياسة ومصير الحرية في العالم الحديث. لكن مرة أخرى جرى تقييمها على أنها في
الأساس عالمة اجتماع ومؤرخة، وبناءًا على هذه المعايير
نشأت الحاجة إلى عملها.
إن ردة الفعل تجاه
"إيخمان في القدس" الذي ألقى
بظلاله على نشر كتاب " في الثورة"، كان أكثر حتى من كونه نقدا.
فالعنوان الفرعي "تقرير عن ابتذال الشر"، يضم معظم
الأحكام الشهيرة لـ "أرندت": من
الأفضل أن نفهم "إيخمان" وغيره من موظفي الدكتاتورية
من أمثاله، ليس على أنهم نوع من المردة العمالقة، أو مجرد تروس في الماكينات
البيروقراطية، بل بالأحرى باعتبارهم "شيئا عاديا مرعبا ومفزعا". وتجادل
"أرندت" بأن "إيخمان" لم تكن لديه الدوافع ليفعل ما فعله، إنه يعرض
كلا الحالين: حالة مملة من عدم التفكير، وحالة افتقار إلى الخيال. فهو لديه جاهزية
مبتذلة وعادية للشر. وبالنسبة لهؤلاء الذين لا يعرفون كتابات "أرندت" الأخرى، فإن حكمها على "إيخمان" بدا في أفضل الأحوال أنه حالة مبالغ فيها من
تخفيف الواقع، وفي أسوئها، بدا أنه تمويه عن المشاركة في اقتراف الإبادة الجماعية.
إلا أنه يمكن أيضا قراءة الصورة على أنها كشف بدون هوادة
لنوع من الحالة السوية التي تمكن الجنس البشري من التشويش كلية على طبيعة الصواب
والخطأ. وتعتبر "أرندت" أن "إيخمان" مسئول أمام مبدأ الحرية والمتطلبات الإنسانية
التي قدمتها إلى الحقل العام: القدرة على التفكير بصورة ممثلة، وممارسة الحكم الإنعكاسي، وتبجيل الحديث وممارسته كنوع من الحرية واحترام
الآراء والكينونات (التعددية) للمواطنين الرفقاء كأنداد ومساوين. ووفقا لكل هذه
الحسابات، مع الأخذ في الاعتبار بصورة جدية احترام "أرندت"
للحرية البشرية ووعيها بهشاشة شبكة العلاقات الإنسانية، فإن إيخمان"
كان ملعونًا. وفي أعقاب الجدل الذي أثاره كتابها "الحقيقة والسياسة"
(بين الماضي والمستقبل)، حاولت أن توضح طبيعة الحقيقة الواقعية وتوعية التفكير
السياسي الذي اتعبرت بموجبه أن "إيخمان" كان مسؤولا.
وفي تقييمنا
لأعمال "أرندت" ككل، من المجدي أن
نستدعي ملاحظة "جاسبرز"، التي تقول إن المرء
بمقدوره أن يكون فيلسوفا نظاميا بدون أن ينتج ترتيبا كليا للفكر. فأعمال "آرندت"، شاملة عملها الأخير الذي لم ينته، ومعظم النص
الفلسفي "حياة العقل"، هي نصوص نظامية خالصة بدون نظام. إننا نجد من
خلال كتاباتها قائمة عريضة من المفاهيم والأفكار والمبادئ، وخصوصا إدراكها لفرادة
السياسة كعالم من الأداء المميز. ومع ذلك فإن ممارستها
المتناسقة والمتناغمة للتنظير السياسي كأنه "غوص لاستخراج لؤلؤ" عوضا عن
كونه بناء نظام، يجعل أعمالها ليست إلا قطعة موسيقية فلسفية تدعونا أبدا إلى أن
"نفكر في ما نفعله" كمواطنين في العالم الحديث.
المصدر: موسوعة المفكرين السياسيين في القرن العشرين، روبرت بنيوريك، فيليب جرين.
أترك تعليقا