جمعت بين حنة آرندت ومارتن هايدغر واحدة من أطرف وأغرب قصص الحب التي يمكن أن تسمع بهَا، فلم يكن
يجمع بين الإثنين سوى الإشتغال
بالفكر الفلسفي.
هي طالبة وهو
أستاذ
عمرها 18 سنة
وعمره 35 سنة
هي اهتمت بالفكر
السياسي وهو عازف عن السياسة غارق في الميتافيزيقا.
هي يهودية وهو
مسيحي
كانت قريبة من الحركة الصهيونية ودعمت نشأة إسرائيل قبل أن تنقِم عليها وتتوقع
أفولها، في حين اتهم بمناصرة النازية والإسهام في تصفية اليهود.
فأي شيء جمع الإثنين؟ "إنه
الحب في كل نطاق تنوعاته: الإيروتيك، والإندهاش، والوفاء والخيانة ، والشغف والروتين، والتصالح،
والنسيان والتذكر وحب العالم..." كما تقول أنطونيا
غرونينبيرغ.
اللقاء الأول (1924-1925)
كانت حنة آرندت إحدى الطالبات اللواتي يتابعن محاضرات هايدغر،
الأستاذ الظاهر في ألمانيا حينها، وكانت حنة شابة فاتنة تلف انتباه كل من حولها،
يصفها هانس-جورج غادامار بأنها تلك "الفتاة
الشابة التي ترتدي دائما تنورة خضراء والتي لا يمكن أن تجاهل حضروها"، شابة
جذابة بعينين سوداويتن ووجه بيضوي رسم بإتقان، وقد جمعت
إلى جمالها ذكاءا وقّادًا وشخصية قوية. كانت طالبة
لامعة في كل من الفلسفة والفيلولوجيا اليونانية
والثيولوجيا وما دفعها للذهاب إلى كونيكسبيرغ في خريف
1924 هو عطشها الفلسفي، والإشاعات التي كانت رائجة حول "إمكانية تعلم
التفكير" في جامعة هذه المدينة على يد فيلسوف شاب. لابد أنها كانت واقعة تحت
أسر هذا الشاب، ففي أحد الأيام ستقدم له نفسها في الساعة المخصصة للإستماع للطلبة ولابد أنهما قد تبادلا نظرات الإعجاب (أو
الحب) في الفصل، تلك النظرات التي سيعود هايدغر للحديث عن وقعها لاحقا في
سنة 1950.
ليس من الصعب تفهم
ارتباط هايدغر بحنة آرندت، فقد جمعت إلى جمالها
النادر، ذكاء وغرابة وخجلا وثقة بالنفس في نفس الآن. ولكن مالذي
وجدته آرندت عند هايدغر ؟ ! حسنًا يمكن القول أنه سحر الشخصية الكارزمية التي تمتع بها هايدغر وربما هو صعود نجمه كفيلسوف
لامع في ألمانيا.
رسالة 02/10/1925
العزيزة الآنسة آرندت،
لا بد لي من مخاطبتكم اليوم والتحدث إلى قلبكم.
لا بد أن يكون كل شيء بيننا وببساطة واضحا
نقيًا. لقد حصل لنا الشرف بالتعرف على بعضنا البعض، وأن
تصبحي طالب لي، وأن أصبح أستاذا لكم ما هو إلا سبب لما حصل لنا.
لن أستطيع امتلاككم أبدًا، لكن ستنتمين من الآن
فصاعدًا إلى حياتي وسينمو هذا الأمر فيكم.
لا نعرف أبدا كيف سنتغير في وجودنا، لكن التأمل
يمكنه أن يشرح إذا ما كنا هدّامين ومعرقلين.
إن الطريق الذي ستأخذه حياتكم الشابة خفي. نريد أن نستسلم لهذا الأمر. وإخلاصي لكم لابد أن يساعدكم
لتبقوا مخلصين لنفسكم...
نشأت بين الأستاذ
والطالبة ألفة وحميمية رغم أنهما يتخاطبان بصيغة الجمع، ولابد أنهما تحدثا كثيرا
في ساعات الدرس أو في فرص كثيرة تتيحها الحياة
الجامعية. وهذه الرسالة الأولى تعبر عن الأثر الذي أحدثه الحب في علاقة الإثنين، فقد شوش على علاقة الطالبة والأستاذ، وتلك الحدود الإجتماعية التي تفصل بينها تكاد تنهار. وهايدغر يحاول
استيعاب هذه العلاقة مع إدراكه في نفس الآن أن هذه الشابة لم تكن له فقد كان يتخبط
بين مشاعر أبوية وعاطفة حب غير معترف به، كان مترددا بين الإقتراب
أو الإبتعاد.
نود أن نحافظ في داخلنا على لقائنا كهدية ولا
نغيره من طريق خيبة الأمل الذاتية إلى حيوية خالصة، يعني لا يجب أن نتخيله كصداقة
روحية، لم توجد أبدا بين البشر.
لا يمكنني ولا اريد أن أفصل ثقة عينكم وشكلكم الجميل عن ثقتكم الخالصة
ووجودكم الخير وصدقكم.
لكن بهذا ستصبح هدية صداقتنا التزاما نود أن
نتطور فيه. وهو التزام يسمح لي بطلب العفو منكم، وهو أمر نسيته
حين توديعكم في البهو.
في هذه الفقرات
الأخيرة من الرسالة نجد تعليقا - بشكل غير مباشر- عن علاقتها بياسبرز،
فهذا الأخير كان يطالب بصداقة روحية خالصة. وهو أمر صعب التحقق بالنسبة لهايدغر
ويرى فيه نوعًا من الخداع.
وهنا نرى تلميحًا
غير مباشر عن مشاعره اتجاه آرندت، ثم يختم هايدغر
رسالته بربط مشاعره بعمله الفلسفي !
لكنني أود أن أشكركم وأقبل جبينكم الطاهر وصدق
وجودكم وآخذه معي لإتمام عملي.
إفرحي أيتها الخيرة.
في الرسائل
اللاحقة سنكتشف أن علاقتهما أصبحت علاقة حب واضحة، فأصبح هايدغر يخاطبها بصيغة
المفرد وتخلى عن صفة الأستاذ وصار يحدثها بصفة عاشقا تصادف أنه أستاذه لا غير.
العزيزة حنة،
لماذا يكون الحب فوق طاقة كل الإمكانيات الإنسانية الأخرى ويكون ثقلا حلوًا
بالنسبة للمعني بالإمر؟ لأننا نتحول إلى ما نحبه، لكننا
نبقى نحن أنفسنا. ذلك أننا نريد أن نشكر من نحب، لكن لا
نجد أي شيء كافٍ لهذا الشكر.
لا يمكننا الشكر إلا بذواتنا. فالحب يغير الشكر إلى الإخلاص للذات وإلى الإتقاد غير المشروط في الآخرين. وبهذا ينمي الحب باستمرار سره الخاص...
وقع الإثنان في شباك حب محرم، ولكن من المستحيل تجاهله. لذلك
استمرت اللقاءات خلسة وكان لابد من إخفاء مشاعرهما عن الآخرين. هايدغر يخفي
عواطفه عن زملائه وأصدقائه خصوصا ياسبرز. زوجته بشكل
خاص لا يجب أن تعلم شيئا، ففي النهاية هي
أم ابنائه ! (ألم أخبرك ؟ آسف، هايدغر متزوج من إلفريد).
لقد عانت زوجته
الكثير بسبب مغامراته الإيروتيكية الكثيرة، فلم تكن
تربطه علاقة مع آرندت فقط، بل سبقتها طالبة شابة أخرى،
إليزابيت بلوخمان. وحتى وإن كان متزوجا بإلفريدا وله علاقة مع آرندت
فقد كانت له علاقات غرامية مع آخريات، منها صوفي دوروتي فون بودفيلس والأميرة مارغوت فون ساكسن وغيرهن ... ومع
ذلك فقد يجمعهما حب قوي جعلها تبقى معه، قابلة على مضض أن تكون رئيسة "حبيبات
زوجها"، ولعل ما يشفع له هو أنه اعترف لها بخياناته المتعددة مرجعًا ذلك إلى الإيروس " من الصعب الحديث عن الشيء الآخر، الذي،
بطريقة من الطرق، لا يمكن عزله عن حبي لك وعن فكري. إنني أسميه الإيروس، أقدم إله بحسب كلمات بارمنيد...
إن رفرفة هذا الإله تضربني كل مرة عملت فيها خطوة مهمة
في تفكيري، ويقودني غلى المسارب غير الآهلة"
ومع كل ذلك فقد كان
واقعا تحت أسر هذا الحب الجديد.
العزيزة حنة،
لقد أصبت بالجنون، إن الصلاة الصامتة ليديك الجميلتين
وجبهتك المضيئة تجسيد للتعالي الذي تحققه أنوثتك.
لم يحدث لي مثل هذا الشيء أبدًا.
كانت العطلة قريبة
وكان هايدغر يناشدها أن تبعث له ببعض الكلمات قبل مغادرتها، معبرا عن سروره للتعرف
على والدتها.
لقد قلبت حنة حياة هايدغر، وأثرت عليه
أيمَا تاثير، فقد كانت قوة حبهما قوة محفزة على العمل
والعطاء، فهو لم يعش قصة حب كالتي عاشها مع حنة آرندت ورغم
انقطاع علاقتهما بسبب هجرة آرندت هروبا من
النازية عادت فيمَا بعد لتكمل قصة حبها وتعيد نسج خيوط الغرام التي ستجمعهما إلى
نهاية العمر.
للمزيد من التفاصيل ولتحميل كتاب رسائل حنة آرندت ومارتن هايدغر المرجو الضغط على زر التحميل بالأسفل.
أترك تعليقا