القواعد النموذجية للمحاورة النقدية هي كالتالي:
القاعدة الاولى:
"كل مشارك في المحاورة النقدية له الحق المبدئي في أن
يعتقد ما يشاء، في أي موضوع من الموضوعات، كما يحق له أن ينتقد أي دعوى لا تخدم مذهبه."
فالاعتقاد والانتقاد حقان مشروعان لا يصح المساس
بهما او تضييقهما. ويتم خرق هذه القاعدة بسعي احد المشاركين
إلى فرض بعض القيود التي تمس الحق في العرض أو الاعتراض، وذلك باستبعاد بعض القضايا
بدعوى أنها من المقدسات التي لا يصح التحاور حولها مثلا !
كما قد يتم خرقها بالتضييق على المحاور نفسه
و الطعن في قدراته وموضوعيته، وذلك بمهاجمة شخص المخاطب
(تعرفنا سابقا على مغالطة الشخصنة ) " دع عنك هذا الغبي فإنه لا يتقن
حتى فقه الوضوء، فكيف به يفتي في أمور السياسة؟!!" أو بالتشكيك في نواياه
مثلا:" إنه يدافع عن النظام الملكي لانه يستفيد
من عطايا الملك" ....
إذن لكي تسير المحاورة بشكل سليم يجب ان نكفل
لكل متحاور الحق في تقديم اي فكرة كيفما كانت ولا نهتم بشخصه حيث يجب التركيز على الافكار
و الحجج المقدمة والعمل على نقدها لا غير .
القاعدة الثانية:
" أيمَا طرف طرح دعوى معينة، فهو ملزم بالمدافعة
عنها و تبريرها إذا طلب منه ذلك"
تشير هذه القاعدَة إلى أن الإدعاء ليس مجرد فعل عابر في المحاورة، بل هو عمل تترتب عنه جملة
من الإلتزامات، وعلى رأسها ضرورة الدفاع عن الدعوى متى طلب
من المدّعي ذلك، حيث أن كل دعوى يتم تقديمها متبوعة بعبء التدليل ، وكل تهاون في حمل
هذا العبء يعد خرقا للقاعدة الثانية. ويكون ذلك إما من خلال التهرب من هذا العبء: بعرض
الدعوى كما لو كانت من البديهيات " لا يحتاج هذا الأمر إلى دليل، فحسبك النظر
في الوقائع لكي تعلم أن ما أقوله صحيح" أو بتحصين الدعوى تجاه أي نقد
" إنه لمن الأمور المعلومة بمقتضى الطبيعة الإنسانية ..." و إما محاولة نقله إلى المخاطَب: " أنت تقول أنني أحتاج إلى
التدليل على ما أدّعيه، فأثبت خطئي إذن"
وعليه فلكي تكون المحاورة سليمة يجب على كل متحاور
أن يدعم كل ادعاءاته بالحجج والأدلة المناسبة وإلا كانت المحاورة مجرد عبث من القول
لا طائل من ورائه.
القاعدَة الثالثة :
"إن نقد الدّعوَى
ينبغِي أن ينصَب عَلى الدعوى المَعروضة فعلا من طرف المحاور"
تنص هذه القاعدَة
على ضرورة عدم انحراف المحاورة إلى الخوض في أمور أخرى غير ما هو مقرر كمحل للنزاع،
فالمحاور لا يجب أن يعمد إلى اختلاق دعاوى أخرى يصرف إليها نقده، وتخرق هذه القاعدة
إذا نسبت دعوى مختلقة و متوهمة إلى العارض ( هنا أذكر بمغالطة رجل القش التي سبق
و تعرفنا عليها)، لذلك يجب أن يحرص المتحاوران على التحديد الدقيق لموقفيهما من
الدعوى التي يدور حولها الكلام، وبالتالي نغلق الباب أمام الوقوع في هذه المغالطة.
كما يمكن خرقها باللجوء إلى تحريف كلام الخصم وتقويله ما
لم يقل ما يلقه من الأمور التي تضعه في موقف حرج .
أمثلَة :
"نفترض أن زيد يدافع
عن نظرية التطور"
عمرو: "إنه يقول أن الله ليس خالق الحياة على الأرض، و كلامه هذا غير صحيح و لدي ألف دليل على أن الله خالق الحياة على الأرض" .
عمرو: "إنه يقول أن الله ليس خالق الحياة على الأرض، و كلامه هذا غير صحيح و لدي ألف دليل على أن الله خالق الحياة على الأرض" .
" نفترض أن زيد يقول
أن للتلفاز دورا سلبيا في تطور الملكات الذهنية للإنسان في مرحلة الطفولة"
عمرو: "لا
أفهم لماذا يحارب زيد التلفاز، رغم أن فوائده لا تخفى على أحد"
عمرو يقوم بتهويل قول زيد من خلال تعميمه و هذا نوع
من التحريف.
القاعدَة الرابعَة:
" لا يتحقق الدّفَاع
عن الدعوى إلا باعتماد أدلة مناسبة"
إن عارض الدعوى ملزم باعتماد الحجاج وحده وسيلة
للدفاع عن دعواه، فذلك هو السبيل الوحيد لحل المحاورة حلا مقبولا، ومن اللازم أيضا
أن يظل الحجاج متصلا بالدعوى المتنازع حولها، فلا يتعداها إلى دعاوى أخرى لا محل لها
في سياق المحاورة الدائرة (فتح نقاش حول الماركسية، فأخذ المحاور يناقش المعتقدات
الشخصية لماركس وهذه مسألة لا صلة لها بموضوع النقاش).
إن اعتماد الوسائل اللاحجاجية
يعتبر أسلوبا باطلا في المحاورة. وقد جرت العادة في الحيل الخطابية أن يتم استغلال
المشاعر أو الأحكام المسبقة للجمهور، واللعب عليها من أجل كسب النصرة والتأييد في المحاورات
( "ألا تريدون أن تعود أمتنا العربية إلى أمجادها وتعيش في عز وكرامة، إذن
فعلينا خوض هذه الحرب بكل ما أوتينا من قوة ..."). ومن الممكن أن يعتمد المحاور
على مظهره وسمات شخصيته المادية والمعنوية ( أؤكد لك أن النظام العراقي قد انتهى
إلى الأبد، ولتعلم أن من يحدثك ضابط سابق في الجيش العراقي) [مغالطة الإحتجاج بالسلطة].
القاعدة الخامسة:
ينبَغي إلا تكونَ الأقوال غامضة أو عصية على الفهم، ولامختلطة أو ملتبسَة، بل قابلة للتفسير بأعلى درجات الدقة الممكنة.
منَ الأمور التي يكون لها تأثير مباشر في الحوار،
طبيعة اللغة المستخدَمة وخواصها، فالحوار يتأثر بشكل كبير باللغة المبهمة، مما يؤدي
إلى أشكال من سوء الفهم بين المتحاورين، ينتج عنها أحيانا عدم فهم أحد الطرفين للآخر
أو أن يظن الطرفان حصول الإتفاق بينهما من دون أن يكون قد
حصل فعلا، وأحيانا تظهر بعض الخلافات التي ليست إلا من سوء فهم دلالة العبارات. يلزم عن هذا أن المتحاورين مطالبان ببذل الوسع في العناية بالصياغة
المضبوطة لمقاصدهما بما يمكن الطرف الآخر من تعيين المعنى المراد.
وهذه القاعدَة تخرق إذَا حاول أحد الطرفين غلبة
محاوره عبر استعمال لغة غامضة أو ملتبسة (إن الوجود الجوهري لكيان لامادي في أجسامنا
الهشة يفسر بجلاء الحياة السرمدية التي نقضيها في عمر متناه أقرب ما يكون إلى العدم
!!)، ولا يتعلق الأمر بالمفردات فقط بل قد يكون غموضا على مستوى بنية النص أوغياب التنسيق المنطقي في تنظيم العرض، وغياب الإنسجام.. وكمثال على الإلتباس التركيبي
في الجمل : " زيد لا يضرب زوجته لأنه يحبها" هل المقصود هو أن زيد
يضرب زوجته لكن السبب في ذلك لا يعود لكونه يحبها بل لسبب آخر (تقدير الجملة هو: زيد
لا يضرب زوجته لأنه يحبها بل لأن ...)؟ أم أن المقصود هو
أن زيدًا لا يضرب زوجته، وعدم ضربه لها راجع لكونه يحبها؟
من يريد محاورة سليمة ويسعى فعلا للتوصل لنتيجة
عليه أن يلتزم بوضوح اللغة المستعملة دلالية وتركيبيا ويبسط أقواله قدر الإمكان.
هذه هي القواعد
النموذجية التي يجب أن يلتزم بها الطرفان المتحاوران لضمان حوار نقدي بناء
وسليم.
أترك تعليقا