هيرَاقليطس heraclites


heraclites هيراقليطس
هيراقليطس واحدٌ من أهمّ فلاسفة اليونَان قبل سقرَاط، وقد عَاش بين 535 و475 ق.م، وقد وصل أوج ازدهاره حوالي عام 500ق.م. وقد " كان رجُلاٌ سامي المشَاعر، متكبّراٌ ومتعجرفًا أكثرَ من أي إنسَان آخر ... وكان منذ حداثته موضوعًا للدهشَة" هكذا يصفُه ديُوجين اللايريتي. والقارئُ للشذَارت الباقيَة من كتَابه "في الطبيعَة" سيلاحظُ احتقارَه للعَامة، كما لم يسلم المفكرونَ والشعرَاء من احتقَاره حيث أنه هاجم هوميروس، هزيود، اكسنوفان و فيتاغورس ...

كان يقول أن "كثرة الحفظ لا تعلم الحِكمة" ويشعر أنه هُو الذي يملك الحكمة الحقيقيّة وكأنمَا أوحي إليه، ولما كانَ أغلب البشر لا يستطيعون بلوغ هذه المرتَبة فإن هيرَاقليطس لا يكشفُ الحجابَ عنِ الحقيقة بل يلمّح فقط. لهذا اعتمد أسلوبًا غامضا واستخدم الجمل القصيرَة، وهوَ لا يكتفي بالإشارَة فقط ( مثلاً: " تؤثرُ الحَمير التّبن على الذهَب " ) .. لكل هذا لقب بالمظلم، الغَامض والحزين.

"أحد مؤسسي الجدلية" [لينين]

أهم ما ميّز فلسفة هيراقليطس هو اعتمَاده علَى العقْل، فالعقل بالنسبة له مشترك بين كل النّاس، حيث يرى هيراقلطيس أن الفيلسوف يجبُ أن يعرفَ الكثيرَ من الأشيَاء، إلا أن الأهم هوَ أن يبدَأ بعد ذلك بإعمَال عقله في كل المَعارف للوصُول إلى "اللوجُوس" .. فمَا هو اللوجُوس ؟

يعتبر اللوغوس من أهم المفاهيم في فلسفة هيراقليطس، وإن كان له عدة معانٍ سواء حالياً أو في القرن الخامس ق.م ، فهو قد يعني المبدأ العام، القانون العام، التعريف، المقياس، الكلام المنطوق، العقل ... لكن المعنى الأساسي للوجُوس عند هيراقليطس هو "القَانُون العام"، فهذا اللوجُوس قانون عام يسيطر على كل شَيء، بمعنى أنه يفسّر الموجُودة وتخضَع له في نفس الآن، يقولُ في إحدى شذراته "الذين يتكلمون بالعقل يجِب أن يتمسكُوا بما هوَ مشترَك للجميع، كما تتمسّك المدينَة بالقانون، بل و أشد. لأن جميعَ القَوانين البشريّة مستمدّة من قانون واحد إلهي يحكم كل شيء كما يشَاء و يكفي لِكل شَيء و هو مع هذا فوق كل شيء" ..

إذن بلوغ اللوغوس هوَ غاية الحكمَة لكِن الطّريق إلى ذَلك ليسَ هو:
  1. اتبَاع الشّعَراء
  2.  ولا اتباع الديانة التقليدية التي توصي بعبادة الأصنام.
  3.  ولا الديانة الأوريفيّة التي يهاجمها هيراقليطس هجومًا شديدًا

لأن هذه الأمور تُفقد تابعهَا عقله، في حينِ أنّ الوصُول إلى الحِكمة يتطلّب بقَاء العقل في حَالة يقظَة دائمة.
ورغم تكَبره إلا أنه كانَ يرى أن الحقيقَة أهم من الأشخاص، ولهذا فإنه يقُول :" الحكمة تقضي ليسَ بأن تنصتُوا إلي أنَا بل إلى اللوغوس ..."

لهيراقليطس مذْهَب طبيعي على غرار الفلاسفَة الطبيعيين، فإذا كان طاليس، أناكسماندرس وأناكسيمنس يقولون بأصْل واحد للكَون، فهيراقليطس يرى أن هذا الجوهر هُو النار، يقُول في إحدى شذراته: "هذا العالم، وهو واحد للجميع لم يخلقه إله أو بشر ولكنه كان منذ الأبد وهو كائن وسوف يوجد إلى الأزل، إنه النار، التي تشتعل بحساب [بمقياس، بنسبة] وتخبو بحساب". وانطلاقا من النار تظهر سائر العناصر الأخرى يقول: "وهذه هي الصور التي تتحول إليها النّار: أولاً البحر، ثم يتحول نصف البحر أرضَا ونصفُه الآخر أعَاصير (أو ينابيع) وتصبح الأرضُ بحرًا، وذلك طبقا لنفس القانون الذي تحولت به الأرض من قبل" ويقول في نص آخر "النار تحيَا بموت الأرض والهواء يحيا بموت النار، والماء يحيا بموت الهواء والأرض تحيا بموت الماء" وظاهر من هذه النصوص أن النار عند هيراقليطس هي أصل كل الأشياء وليس فقط جوهرها، فكل الأشياء تنبع منها وتعودُ إليهَا "هناك تبَادل بين النار وبين جميع الأشياء كالتبادل بين السلع والذهب، أو الذهب والسلع" وهو يرى أن العالم سينتهي عندما تلتهم النار كل شيء. وظاهر اختلاف هيراقليطس عن الفلاسفة الطبيعيين الذين لم يرتقوا مثله إلى تصور للعام للكون كله، لكن الإختلاف الرئيسي يكمن في أن مذهب النار ليس مركز فلسفة هيراقليطس بل مجموعة من الأفكار نلخصها فيما يلي :

هيراقليطس وحدة الأضداد
أول الأفكار المُهمة التي جَاء بها هيراقليطس مفهوم "الصرَاع"، فالصراع عندَه هوَ أساسُ الوجود، يقول في إحدى شذراتِه " الحرب ملك كل شيء وأبُ كل شيء، وهي التِي جعلت بعضَ الأشيَاء آلهة و بعضهَا الآخر بشرًا وبعضهَا أحرارًا وبعضهَا عبيدًا" ويقول في نص آخر " يجب أنْ نعرفَ أن الحرب عامة لكُل شيء و أنّ التنازع عدل، و أن جميعَ الأشياء تكون وتفسد بالتنازع " . ولهذا كان ينتقد هوميروس قائلا أنه أخطَأ في قوله " لو أن التنَازع زال من الآلهة و البشَر" لأن زوال الصراع يعني زوال كل شيء .. والصراع يكون بين الأضداد، لكن هذه الأضداد بينها نوع من الوحدة، ومن هنا جاء مفهوم آخر لهيراقليطس وهو "وحدة الأضداد" يقول موضحا في أحد نصوصه " في محيط الدائرة يلتقي البدء والنهاية" و يقول " يجهل الناس كيف يكون الشيء مختلفا ومتفقا مع نفسه، فالوحدة تقوم على الشد والجذب بين الأضداد كالحال بين القوس والقيثارة"، وهذا النص يتضمن نقاط مهمة نلخصها كالتالي:
1- الناس يجهلون الحقيقة الأساسية التي تقول إن الصراع هو أساس الوجود.
2- هذا الصراع يحدث بين أضداد.
3- رغم ذلك، ونتيجة هذا الصراع نفسه، تحصل وحدة بين هذه الأضداد 
!
4- هذا لاصراع وهذه الوحدة لا يكونان فقط بين الأشياء بعضها وبعض بل أيضا في الشيء الواحد نفسه. 

الفكرة الاخيرة التي سَنشير إليها، هِي فكْرة التغير الدّائم، فكل شَيء في تغير دائم والتغير يتم من الضد إلى الضد. وإشهر نصوص هيراقليطس في هذا الموضوع هو " إننا ننزل و لا ننزل النهر الواحد، إننا نكون ولا نكون" (المشهور : إنك لا تنزل النهر مرتين)، وهذا النص لا يشير فقط إلَى التغير الدائم بل كذلك إلى وجود حقيقة ومظهَر، وإن المظهر هو الثبات أمّا الحقيقَة فهي التغير الدّائم.

إنه لأمر عظيم الأهمية أن يكون أدرك أن الوجود واللاوجود هما مجرد تجريديات لا حقيقة لها، وأن الحقيقة الأولى هي فقط صيرورة". [هيجل]

نظرية المعرفة

رأينا أن اللوغوس، وهو القانون الإلهي العام للكون، مشترك بين كل شيء بما في ذلك الإنسان، لكن الذين يبلغون هذا القانون قليلون، حيث يقول هيراقليطس: "مع أن اللوغوس مشترك إلا أن معظم الناس يعيشون وكأن لكل واحد منهم حكمته الخاصة" و"لا يفهم كثير من الناس هذه الأمور التي تقع عيونهم عليها، وهم لا يفهمونها حتى إذا تعلموها، وإنما هم يظنون ذلك فقط"، ومن خلال هذه النصوص نلاحظ أن هيراقليطس ينتقدُ المعرفة التعادية التي تكتفي بالجزئيات ولا ترتقي إلى الجوهر الذي هو القانون العام، وبالتالي يكون فهمهم للكون قاصرًا رغم اعتقادهم أنهم يعرفونه معرفة حقيقية، ولذلك كان نقد هيراقليطس شديدًا لمن سمّاهم "جامعي المعارف الكثيرة" مثل كسينوفان وفيتاغورس. فكثرة المعارف ليست غاية بل هي وسيلة لبلوغ القانون العام.

وَبلوغ القانون العام متاح للجميع، لأن اللوغوس مسترك بين كُل شيء كما سبق واشرنا، لكن المطلوب هو توخي الحذر وعدم التسَرع في الحكم، وتجاوز الظاهر إلى الباطن، وبالتالي فهيراقليطس يدْعو لإعمال العقل والـتأمل وعدم اتباع الآخرين لذلك يقول:"ماذا عندهم من عقل أو حكمة؟ إنهم يتبعون الشعراء ويقتدون بالجمهور". ولهِذا يجبُ على الفكر أن ينمي نفسه بنفسه لذلك نجد عند هيراقليطس شَذرة مهمة تقول " بحثت بنفسِي" .

فمنهج هيراقليطس إذن منهجٌ عَقلي، لأن الظاهر ليسَ هو الحقِيقَة، وكذلك لأن الحواس مضلّلَة، حيث أنه يهَاجمُ الحواس هجُومًا شديدًا في بعض النصوص نورد منهَا: " العيون والآذان شهود سيئة للبشر إذا كانت نفوسهم لا ثقافة لها"، ولنلاحظ أنه يضع شرطًا لكون الحواس شهودًا سيئة وهو كون النفوس بلا ثقافة، فانتقاده إذن ليس للحواس في ذاتها بل لاتباعها دون أن يحلل العقل ما يتلقاه منها.

هذه بعض الأفكار حول فلسفة هيراقليطس، وهي فلسفة قوية كان لها تأثير عميق في تطور الفكر الفلسفي عبر التاريخ.

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

أترك تعليقا