الحداثة ومشروع الأنوار - هابرماس





ترتبط فكرة الحداثة ارتباطا كبيرا بتطور الفن الأوربي، لكن ما دعوته بمشروع الحداثة يصبح مرئيا إذا تجاوزنا الاهتمام الخاص بالفن الذي ظهر إلى الآن. وقد وصف ماكس فيبر الحداثة الثقافية حين بين أن العقل الجوهري الذي عبرت عنه التصورات الدينية والميتافيزيقية عن العالم يتحلل إلى ثلاث لحظات متمايزة لا يستطيع إدراك وحدتها سوى مقاربة صورية (برهنة تعود إلى الأساس). فمن حيث إن تصورات العالم تنهار وتقود إلى انشطار المشاكل التقليدية إلى منظورات خاصة – منظورات الحقيقة، وصواب المعايير، والصدق والجمال- لترى فيها حسب الحالات مشكل معرفة، وعدالة، أو ذوق، فإن العصور الحديثة تحدث تخصيصا لدوائر القيم الخاصة بالعلم والأخلاق والفن. وفي منظومات العمل الثقافية المقابلة تصبح النقاشات العلمية ودراسات الأخلاق أو القانون والإنتاج الفني ونقد الفن، بصورة مؤسسية. مسألة اختصاصيين. وهكذا يشهد التراث الثقافي – وهو محط معالجة من طرف الاختصاصيين الذين يتناولون في كل مرة بصورة تجريدية ميدان عمل خاص – انبثاق قوانين خاصة بمنظومات المعرفة النظرية والأداتية، الأخلاقية والعملية، الجمالية والتعبيرية. وعندئذ يوجد أيضا تاريخ داخلي للعلوم، وللنظريات الأخلاقية، ولنظرية الحق والفن – وهي تطورات لا تسير في خط مستقيم، لأنها مجرد تمرينات معرفية، وتلك هي السمة الأولى للمسألة.
ومن ناحية ثانية، فإن المسافة التي تفصل ثقافة الاختصاصي عن الجمهور الواسع تتزايد أكثر فأكثر. فما تطوره الثقافة بواسطة التفكير والمعالجة المختصين لا يعني الممارسة اليومية تلقائيا. بل إن العقلنة الثقافية تولد بالأحرى خطر تفقير العالم المعاش، الذي انحطت تقاليده، اي  الجوهر الثقافي المشكل له.



إن مشروع الحداثة، الذي صاغه فلاسفة الأنوار في القرن 18 يقوم على تطوير العلوم المضفية للموضوعية، والأسس الكونية للأخلاق والقانون وأخيرا الفن المستقل، لكن أيضا على تحرير مواز للقدرات المعرفية من أشكالها النبيلة والغربية لتجعلها قابلة للاستعمال من طرف الممارسة وذلك من أجل تحويل عقلاني لظروف الوجود. وهناك فلاسفة من حجم كوندورسيه ما يزالون يغذون الأمل اللامحدود في أن الفنون والعلوم يمكن أن تسهم لا فقط في مراقبة القوى الطبيعية، بل أيضا في فهم العالم وفي فهم الذات وفي التقدم الأخلاقي، وفي تحقيق عدالة المؤسسات الاجتماعية بل حتى في تحقيق سعادة الناس.
لم يترك القرن العشرون من هذا الأمل إلا شيئا قليلا. لكن المشكل الذي يطرحه ما يزال قائمًا وسيظل سببا لصراع الأفكار: هل يتعين الارتباط بمقاصد الأنوار رغم تحللها أم يتعين على العكس من ذلك رفض مشروع الحداثة واعتبار أن الإمكانات المعرفية التي لا تؤدي إلى التقدم التقني والنمو الاقتصادي وإلى الإدارة المعقلنة يتعين الاستغناء عنها.
J. Habermas : « La modernité projet inachevé » - critique N 412, P :957-985
عن دفاتر فلسفية 6 – الحداثة – ص: 26

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

انت في احدث موضوع

أترك تعليقا