الإستبداد ظاهرة
قديمة ومستمرة في التاريخ، وله أشكال وأنواع عديدة. ويمكن تعريفه، بصورة عامة،
بأنه الإنفراد بالأمر والأنفة عن طلب المشورة أو عن قبول النصيحة حيث ينبغي الطلب
أو القبول. فإذا كان الأمر متعلقا بمصلحة الفرد نفسه، فإن الإستبداد يأتي على
الأغلب تعبيرا عن غرور المرء بنفسه، أو عن عدم قدرته على الانفتاح والتبادل، أو عن
إرادته كتم حقيقته عن غيره. وإذا كان الأمر متعلقا بتدبير مصلحة جماعة معينة، فإن
الاستبداد يعني التصرف المطلق في شؤون تلك الجماعة بمقتضى المشيئة والهوى. وفي هذه
الحالة، لا يبعد معنى الاستبداد عن معاني الإعتساف والتحكم والإستعباد والسيطرة
التامة.
من هذا المعنى
العام، تتفرع معان كثيرة دقيقة، بحسب نوع الجماعة وطبيعة العلاقات الأساسية
القائمة بين أعضائها. ونظرا للأهمية البالغة للجماعة السياسية في حياة الانسان،
فقد تركز انتباه المفكرين والباحثين على الاستبداد السياسي أكثر مما تركز على سائر
أنواع الاستبداد.
في التراث العربي
الاسلامي، يبرز معنيان للاستبداد السياسي. الأول يجعله مقابلا للشورى، وهي استطلاع
رأي ذوي التجربة والبصيرة في شؤون الحكم. والثاني يجعله مقابلا للمشاركة في الحكم
من جهة ذوي العصبية الواحدة الغالبة، وهو ما قصده ابن خلدون حيث تحدث عن أطوار
الدولة وحدد الطور الثاني منها بأنه طور استبداد الحاكم على قومه والانفراد دونهم
بالملك. الاستبداد بالمعنى الأول مذموم، أذ أن المشورة تخلص من الهوى وتفضي إلى
القرار السديد، وهو بالمعنى الثاني أمر واقع بمقتضى طبيعة الحكم القائم على تغلب
عصبية قبَلِيّة معينة.
في الفكر السياسي
الغربي الحديث، يتحدد الإستبداد بدقة، بالنسبة إلى القانون. فالحاكم المستبد هو
الحاكم الذي لا يتقيد بقانون أو بقاعدة ثابتة ويفرض إرادته على المحكومين بدون
خشية حساب أو تبعة. لكن هذا ليس مانعًا كافيا من الاختلاف بحسب وجهة النظر. فعند
مونتيسكيو، مثلا، الاستبداد هو نوع من أنواع الحكم، أو نظام من الأنظمة السياسية،
يتميز عن سائر الأنظمة بكونه يجعل السلطة كاملة بين يدي حاكم واحد، يحكم بدون
قانون أو قاعدة، بموجب إرادته وأهوائه، وبكونه يقوم تبعا لذلك، على مبدأ الخوف.
أما عند روسو، فالاستبداد ليس نظاما سياسيا، وإنما هو اغتصاب السلطة التشريعية
واعتبار الحاكم نفسه فوق القانون، مهما يكن شكل الحكمة وعدد أعضائها. وجهة نظر
مونتيسكيو وضعية سوسيولوجية، بينما وجهة نظر روسو معيارية مبنية على مسألة شرعية
السلطة والحكومة. وقد كان تصور الكواكبي، وهو أشهر محارب للاستبداد في الفكر
العربي الحديث، متأثرا بالتراث العربي الاسلامي والتراث الغربي الليبرالي، فلم
يحصر الاستبداد في شكل واحد من أشكال الحكومة. ووسع مفهوم الشورى، فجعله نقيض
الاستبداد في نظام الحكم الذي تراقب فيه السلطة التشريعية الحكومة وتحاسبها،
وتراقب الأمة السلطة التشريعية وتحاسبها.
ويختلط مفهوم
الاستبداد مع مفهوم الطغيان في كثير من الأذهان والنصوص. ولكن في الحقيقة، يشتمل
مفهوم الطغيان، بمعناه العام، على عنصرين لا نجدهما بالضرورة في الاستبداد، وهما
القهر والجور. فالاستبداد، من حيث هو تصرف غير مقيد وتحكمي في شؤون الجماعة
السياسية، يبرز إرادة الحاكم وهواه، ولا يعني بالضرورة أن تصرف الحاكم ضاغط بعنف
على المحكومين، غير مبال بقواعد العدل والانصاف. هذا مع العلم أن الطاغية يعني في
بعض النظريات الحاكم الي يستولي على الحكم بصورة غير شرعية، ولكنه يحكم بموجب
القوانين النافذة. ومن هنا، نشأت فكرة الحاكم المستبد العادل، وفكرة المستبد
المتنوّر، بحسب التعبير المشهور في القرن الثامن عشر. فالاستبداد لا يتنافى في
ذاته مع العدل والنور، ولكن تحكم الهوى في الصوف التفردي يبعد الحاكم عن التبصر
العقلي في الأمور، وفي النتيجة عن مسلك النور والعدل.
ناصيف نصار،
الموسوعة الفلسفية العربية، ج1
1 التعليقات:
التعليقاتبارك الله فيكم
ردأترك تعليقا